التحولات العمرانية والمعمارية التي شهدتها مدينة درنة خلال فترة الاستعمار الإيطالي (1911-1943)
Architectural and Urban Transformations in Derna During Italian Occupation (1911-1943)
د. ايمان عطية يوسف ساسي1
1 كلية الفنون والعمارة، جامعة درنة، ليبيا.
DOI: https://doi.org/10.53796/hnsj65/16
المعرف العلمي العربي للأبحاث: https://arsri.org/10000/65/16
المجلد (6) العدد (5). الصفحات: 175 - 200
تاريخ الاستقبال: 2025-04-07 | تاريخ القبول: 2025-04-15 | تاريخ النشر: 2025-05-01
المستخلص: تتناول هذه الدراسة التحولات العمرانية والمعمارية التي شهدتها مدينة درنة خلال فترة الاحتلال الإيطالي (1911-1943)، مع التركيز على تأثيراتها المتعددة على الهوية الحضرية والاجتماعية والاقتصادية للمدينة، بالإضافة إلى تقييم الأضرار التي تعرضت لها المعالم الإيطالية جراء إعصار دانيال عام 2023. حيث اعتمد البحث على منهجية متكاملة تجمع بين التحليل التاريخي للسياق السياسي والاجتماعي خلال الحقبة الاستعمارية، والوصف الدقيق للأنماط المعمارية الموروثة، والتحليل النقدي للوثائق والمواد البصرية التاريخية. كشفت الدراسة عن تحولات جذرية في النسيج العمراني لمدينة درنة، حيث أدخل الاحتلال الإيطالي أنماطاً معمارية غريبة عن الطابع المحلي، مما أسهم في تغيير الهوية البصرية للمدينة. كما سلطت الضوء على التأثيرات الاجتماعية والاقتصادية العميقة للاستعمار، والتي تمثلت في تدهور أوضاع السكان المحليين مقابل تطوير مرافق تخدم المستعمرين. أما على صعيد التراث العمراني، فقد بينت الدراسة حجم الأضرار التي لحقت بالمعالم الإيطالية المتبقية بسبب إعصار دانيال، مما يهدد بفقدان جزء مهم من الذاكرة العمرانية للمدينة. تؤكد هذه الدراسة على الأهمية التاريخية والعمرانية لهذا الإرث المعماري، وتدعو إلى ضرورة توثيقه وحمايته كجزء من الذاكرة الجمعية. كما تقدم توصيات حول إمكانية إعادة قراءة هذه المعالم في إطار الهوية الليبية المعاصرة، مع اقتراح آليات للحفاظ على ما تبقى منها ودمجها في التخطيط العمراني المستقبلي للمدينة.
الكلمات المفتاحية: الاحتلال الإيطالي، التحولات العمرانية، الهوية الحضرية، إعصار دانيال، التراث المعماري.
Abstract: This study examines the urban and architectural transformations in the city of Derna during the Italian occupation (1911–1943), focusing on their multifaceted impacts on the city’s urban, social, and economic identity, as well as assessing the damage inflicted on Italian-era landmarks by Storm Daniel in 2023. The research employs an integrated methodology combining historical analysis of the political and social context of the colonial period, detailed documentation of inherited architectural styles, and critical analysis of historical documents and visual materials. The study reveals radical shifts in Derna’s urban fabric, as the Italian occupation introduced foreign architectural patterns that altered the city’s visual identity. It also highlights the profound socio-economic effects of colonization, including the marginalization of residents alongside the development of infrastructure serving the colonizers. Regarding architectural heritage, the study outlines the extent of damage caused by Storm Daniel to the remaining Italian landmarks, threatening the loss of a significant part of the city’s urban memory. This research underscores the historical and architectural significance of this heritage, advocating for its documentation and preservation as part of collective memory. It also proposes recommendations for reinterpreting these landmarks within the framework of contemporary Libyan identity, suggesting mechanisms for safeguarding surviving structures and integrating them into the city’s future urban planning.
Keywords: Italian occupation, urban transformation, architectural heritage, Storm Daniel, colonial architecture.
أهمية البحث:
ترجع أهمية هذه الدراسة إلى عدة جوانب رئيسية:
- الأهمية التاريخية: توثيق حقبة تاريخية شهدت تغييرات عمرانية كبرى خلال فترة الاحتلال الإيطالي (1911-1943)
- الأهمية العمرانية: تحليل الأنماط المعمارية والعمرانية التي أدخلها الاحتلال الإيطالي على المدينة، ومدى تأثيرها على البيئة الحضرية وسكانها.
- الأهمية الاجتماعية: دراسة أثر الوجود الاستعماري في المدينة، وانعكاسه على أسلوب معيشة السكان وتغير أنماط حياتهم.
- الأهمية الاقتصادية: تسليط الضوء على النمو الاقتصادي الذي كان يخدم المستعمر الإيطالي، مقابل التدهور الاقتصادي الذي عانى منه سكان المدينة.
- أهمية توثيقية ارث تاريخي: توثيق المعالم الإيطالية بسبب الاضرار التي تعرضت لها بسبب إعصار (2023)
مشكلة الدراسة:
شهدت مدينة درنة تغييرات سياسية عميقة نتيجة الاستعمار الإيطالي بين عامي 1911 و1943، مما أدى إلى تحولات كبيرة في نسيجها العمراني والمعماري. تسببت هذه التغيرات في طمس جزء كبير من هويتها العمرانية والاجتماعية لفترة تجاوزت الثلاثين عامًا، حيث ظهرت أنماط عمرانية غير مألوفة تأثرت بالتصاميم الإيطالية المفروضة على المدينة.
تساؤلات الدراسة:
تسعى الدراسة للإجابة عن التساؤلات التالية:
- ما التحولات العمرانية والمعمارية التي شهدتها مدينة درنة خلال فترة الاستعمار الإيطالي (1911-1943)؟
- ما تأثير هذه التحولات على اقتصاد المدينة وهويتها الحضرية والاجتماعية؟
- هل لا تزال المعالم الإيطالية قائمة حتى اليوم، وما الأضرار التي لحقت بها نتيجة إعصار دانيال (2023)؟
اهداف الدراسة:
تهدف هذه الدراسة إلى:
- تحليل التحولات العمرانية والمعمارية التي شهدتها مدينة درنة خلال فترة الاستعمار الإيطالي (1911-1943) وتحديد أبرز التغيرات في نسيجها الحضري.
- توثيق الأنماط المعمارية الإيطالية التي أُدخلت إلى المدينة ودراسة تأثيرها على الهوية العمرانية المحلية.
- دراسة الأثر الاجتماعي والاقتصادي لهذه التحولات على سكان المدينة، من حيث التغيرات في أنماط المعيشة والتأثيرات الاقتصادية الناجمة عن الاستعمار.
- تقييم بقاء وتأثير المعالم الإيطالية في درنة حتى يومنا هذا، ومدى صمودها أمام العوامل الزمنية والكوارث الطبيعية، لا سيما الأضرار التي لحقت بها بسبب إعصار دانيال (2023).
المنهجية:
تعتمد هذه الدراسة على عدة مناهج علمية للوصول إلى نتائج دقيقة ومحددة، وهي:
- المنهج التاريخي: تحليل الأحداث السياسية والتاريخية خلال فترة الاحتلال الإيطالي، ودراسة تأثيرها الاجتماعي والعمراني على مدينة درنة.
- المنهج الوصفي: توثيق ووصف العمران في المدينة كما كان خلال فترة الاحتلال الإيطالي (1911-1943).
- المنهج التحليلي: إجراء تحليل نقدي للوثائق، والصور، والخرائط من فترة الاحتلال، بالإضافة إلى دراسة المباني القائمة حتى يومنا هذا، بهدف الوصول إلى فهم واضح لمعالم المدينة وعمرانها ذي الطابع الإيطالي.
الإطار النظري والدراسات السابقة:
سمات وخصائص التخطيط الحضري في ليبيا في عهد الإدارة العثمانية والإيطالية:
أولا: سياسة التخطيط العمراني للمدن التقليدية الليبية في العهد العثماني الثاني:
في إطار سعي الحكومة العثمانية لتطوير المدن الليبية، اتخذت خطوات مهمة لتنظيم التخطيط العمراني من خلال إنشاء البلديات، حيث أوكلت إليها مهمة الإشراف على عملية التطوير بمنح والي البلدية أو المتصرف صلاحيات واسعة في اتخاذ القرارات المتعلقة بالتخطيط العمراني وتمويل المشاريع، حيث شملت مهامه تحديد اتجاهات توسع المدن خارج الأسوار القديمة، بالإضافة إلى توفير خدمات أساسية مثل المياه ونصب الحنفيات في الأماكن العامة. كما أولت الإدارة العثمانية اهتمامًا كبيرًا بتحسين البنية التحتية، فقامت بإنشاء خطوط الهاتف لنقل الاتصالات بين المناطق، إلى جانب تطوير نظام البرق لضمان سرعة التواصل. ولم تقتصر جهود التطوير على ذلك، بل شملت أيضًا تشجير الشوارع والمناطق العامة لتحسين المظهر الجمالي والبيئي للمدن. إلى جانب ذلك، حرصت البلديات على بناء المساجد والمرافق العامة كالمستشفيات والمعسكرات وغيرها من المباني الخدمية، مما ساهم في تطوير الحياة الاجتماعية والاقتصادية للمواطنين. وبذلك، مثّلت هذه الإجراءات جزءًا من سياسة عثمانية أوسع تهدف إلى تحديث المدن الليبية وتعزيز إدارتها المحلية.1
- معالم المدن التقليدية الليبية في العهد العثماني:
ففي العهد العثماني الثاني (1835–1912)، شهدت المدن الليبية التقليدية تطوراً عمرانياً وحضرياً ملحوظاً، متأثرة بالطراز الإسلامي العثماني مع احتفاظها بخصوصية محلية وفيما يلي أبرز ملامح تخطيطها وتطورها، انظر شكل (1). و بالرغم من ان المدن الليبية شهدت تطوراً إدارياً وخدمياً في إدارة البلديات، لكنه لم يشكل تخطيطاً حقيقياً للمدن. فقد اقتصرت السياسة العثمانية على تنظيم التوسع العمراني ومراقبة رخص البناء دون معالجة جوانب التخطيط الشامل مثل توفير خرائط واضحة للمدن، إذ ظلت تلك الخرائط سرية وغير متاحة للعامة، بل كانت حكراً على الأغراض العسكرية والإدارية. وهكذا، ظل التخطيط الفعلي للمدن الليبية التقليدية محدوداً دون تغيير جذري في بنيتها الأساسية.2
شكل (1) وصف للمدن التقليدية الليبية فترة العهد العثماني. (تحليل الباحث)
ثانيا: سياسة التخطيط العمراني للمدن الليبية في ظل الاحتلال الإيطالي (1918):
اعدت الإدارة الاستعمارية الإيطالية خرائط للمدن الكبرى بليبيا عام 1918 واعتمدت في سياستها على تنظيم الشوارع الرئيسية وإزالة الاسوار المحيطة بالمدن التقليدية فترة الحكم العثماني وتخطيط طريق دائري يحيط بالمينة بدل الاسوار وتنظيم استعمالات و تحديد ارتفاع المباني للمناطق من طابقين الي ثلاث طوابق وخصوصا المطلة على الشوارع الرئيسية اسوة بتخطيط شوارع روما .قامت الإدارة الاستعمارية الإيطالية بإعداد خرائط تخطيطية للمدن الليبية الرئيسية عام 1918، حيث اتبعت سياسة عمرانية ممنهجة تمحورت حول عدة محاور أساسية. فقد أولت اهتماماً خاصاً بإعادة تنظيم الشبكة الطرقية، حيث عملت على تطوير الشوارع الرئيسية وإزالة الأسوار العثمانية التي كانت تحيط بالمدن التقليدية، واستبدالها بحلول تخطيطية حديثة تمثلت في إنشاء طرق دائرية تحيط بالمدن. حيث اتسمت السياسة التخطيطية الإيطالية بالتركيز على ضبط النسيج العمراني من خلال تنظيم استعمالات الأراضي وتحديد الارتفاعات المسموح بها للمباني، حيث اقتصرت معظم المناطق على مبانٍ تتراوح بين طابقين إلى ثلاثة طوابق، مع إيلاء اهتمام خاص للمباني المطلة على الشوارع الرئيسية. وقد استوحى المخططون الإيطاليون في هذا الصدد النموذج التخطيطي لشوارع روما، مما أعطى المدن الليبية طابعاً معمارياً مميزاً خلال تلك الفترة. كما جسدت هذه الإجراءات رؤية استعمارية تهدف إلى إضفاء الطابع الأوروبي على المدن الليبية، مع الحفاظ على بعض العناصر المحلية. وقد نتج عن هذه السياسة تحول جذري في المظهر العمراني للمدن، حيث تم الانتقال من النمط العثماني التقليدي إلى أنماط أكثر حداثة تأثرت بالتجربة التخطيطية الإيطالية المعاصرة.3
- التخطيط الحقيقي للمدن الليبية الكبرى فترة الاحتلال (1936):
وضعت الإدارة الإيطالية معايير اعتمدتها في تخطيط المدن الكبرى ومنها:
- لائحة المباني: تم وضع اشتراطات لتوحيد خط السماء للمباني المطلة على الطرق الرئيسية واشتراطات خارجية للمباني ومن افنية وبروزات.
- لائحة استعمالات الارض: تنظيم استعمالات الارض للمناطق المركزية والمناطق المهمة مثل المناطق التجارية والصناعية والمناطق الخضراء والحدائق وانشاء الميادين وتنسيقها جماليا بالنصب والنافورات المائية والاهتمام بإنشاء كورنيش للمدن المطلة على البحر مثل مدينة طرابلس.4
- نبذة عن التخطيط الإيطالي لمدينة طرابلس:
شكّل الاستعمار الإيطالي لليبيا تحولاً جذرياً في الهوية العمرانية لمدينة طرابلس، حيث مثّلت الفترة بين 1911 و1943 مرحلة حاسمة في تشكيل المدينة الحديثة. حيث بدأ المشروع الاستعماري بمحاولات أولية لإعادة تنظيم المدينة وفق مخططات وضعها مهندسون مثل لويجي لويجي وريكاردو سيمونتي، إلا أن الحرب العالمية الأولى عرقلت هذه الجهود. ومع صعود النظام الفاشي في إيطاليا، تحولت العمارة إلى أداة دعائية تعكس قوة الإمبراطورية الجديدة، حيث برز دور معماريين مثل أرماندو براسيني في تصميم معالم رئيسية كالواجهة البحرية وكاتدرائية طرابلس. بلغت عملية التحديث ذروتها في عهد الحاكم إيتالو بالبو (1934-1940)، الذي كلف المهندس فلوريستانو دي فاوستو بتنفيذ سلسلة من المشاريع الضخمة. تميزت هذه المباني بمزج غريب بين الطراز الكلاسيكي الروماني والعناصر الإسلامية المحلية، كما ظهر جلياً في تحفة فندق الودان الذي وُصف بـ”جوهرة العمارة الأفريقية الحديثة”. غير أن هذا التطور العمراني رافقه فصل عنصري واضح، تجسد في بناء سور “الكردون” الذي قسم المدينة إلى قسمين: أحياء فاخرة للمستوطنين الإيطاليين مزودة بأحدث المرافق، وأحياء شعبية لليبيين تفتقر لأبسط الخدمات. أعاد الإيطاليون تشكيل قلب المدينة حول ميدان الشهداء (بيازا دي إيطاليا سابقاً)، حيث حوّلوا السوق العثماني التقليدي إلى ساحة أوروبية الطابع تتفرع منها شوارع عريضة تحمل أسماء إيطالية. كما أدخلوا أنظمة حديثة للبنية التحتية كشبكات الصرف الصحي وسكة الحديد التي ربطت طرابلس بمدينة زوارة. غير أن هذا الإرث المعماري يحمل تناقضاً جوهرياً: فبينما تشكل هذه المباني اليوم جزءاً من الذاكرة الجمعية للمدينة، تبقى شاهدة على حقبة استعمارية اتسمت بالتمييز والعنف، 5، انظر شكل (2):
شكل (2) يبين الخصائص المعمارية والعمرانية للأحياء الإيطالية
بمدينة طرابلس (مصدر الصورة: م. الاطرش (
- أعمال الحاكم الإيطالي إيتالو بالبو في عمارة وهندسة طرابلس (1934–1940)
شهدت فترة حكم إيتالو بالبو في ليبيا (1934-1940) تحولاً كبيراً في التخطيط الحضري والعمراني لمدينة طرابلس انظر شكل (3)، حيث قام بالبو بالتعاون مع مهندسين ومخططين إيطاليين بتنفيذ سلسلة من المشاريع الكبرى التي غيرت وجه المدينة. بدأ بالبو بوضع مخطط شامل لتوسعة المدينة نحو الجنوب والشرق، مع التركيز على فصل الأحياء الإيطالية الفاخرة عن الأحياء الليبية التقليدية، كما عمل على إنشاء شبكة طرق حديثة تربط طرابلس بضواحيها مثل طريق طرابلس-تاجوراء. ومن أبرز إنجازاته في هذا المجال بناء سور الكردون الذي أحاط بالمدينة وعزز سياسة الفصل العنصري من خلال بواباته العشر التي كانت تتحكم في حركة الدخول والخروج. في مجال النقل والمواصلات، أولى بالبو اهتماماً خاصاً بتطوير الميناء الذي أصبح بوابة تجارية مهمة بين إيطاليا ومستعمراتها الأفريقية، كما شيد خط سكة حديد يربط طرابلس بزوارة غرب البلاد لنقل البضائع والقوات العسكرية. ترك بالبو إرثاً متناقضاً في ليبيا، فمن ناحية قام بتحسين البنية التحتية من طرق وكهرباء ومياه، وترك مباني ما زالت قيد الاستخدام مثل قصر الشعب وفندق الودان، ومن ناحية أخرى اتبع سياسات فصل عنصري وتهميش اقتصادي للسكان الليبيين. وقد توقفت جميع مشاريعه الطموحة بعد هزيمة إيطاليا في الحرب العالمية الثانية عام 1943، لتبقى هذه المنشآت شاهداً على حقبة استعمارية مثيرة للجدل في التاريخ الليبي.6
شكل (3) الحاكم الإيطالي إيتالو بالبو في عمارة
طرابلس (1934–1940). ((Google.com
مميزات وعيوب عصر بالبو:
من مميزات عصر بالبو تحسين البنية التحتية (طرق، كهرباء، مياه) كذلك بعض تصاميم بالبو تمثلت في مباني ما زالت قيد الاستخدام (قصر الشعب، فندق الودان). اما سلبيات عصره تمثلت في الفصل العنصري والتهميش الاقتصادي لليبيين مع توقف المشاريع بعد هزيمة إيطاليا في الحرب العالمية الثانية (1943). والشكل (4) يوضح بعض اعمال الحاكم الإيطالي إيتالو بالبو في عمارة طرابلس (1934–1940) حيث تعاون مع بالبو مع المهندس فلوريستانو دي فاوستو.
شكل (4) يوضح اعمال بالبو في عمارة مدينة طرابلس. (تحليل الباحث)
- تحليل سياسات العمرانية للمحتل ضد المجتمع الليبي في المدن الليبية:
اتبع المحتل الإيطالي سياسة عمرانية قائمة على الفصل العنصري، حيث فرض نظاماً طبقيًا في السكن بهدف ترسيخ هيمنته وتهميش السكان الأصليين. فقُسِّمت المدينة إلى قسمين متباينين: أحياء فاخرة مخصصة للمستوطنين الإيطاليين، وأخرى عشوائية ومهمشة للسكان الليبيين.
- الأحياء الإيطالية: الرفاهية والخدمات المتكاملة: تمتع الإيطاليون بأحياء مخططة بعناية، مثل حي المنشية والظهرة، التي شُيِّدت فيها فيلات فاخرة ذات طراز معماري أوروبي، مزودة بكل مرافق الحياة العصرية من كهرباء، وشبكات صرف صحي، وطرق مرصوفة. كما حظيت هذه الأحياء بمساحات خضراء وحدائق عامة، مما يعكس أولوية المستعمر في توفير بيئة معيشية مريحة لقادته ومستوطنيه.
- الأحياء الليبية: الإهمال والعشوائية: في المقابل، أُجبر الليبيون على العيش في المدينة القديمة أو في أحياء عشوائية خارج السور، مثل منطقة باب عكارة، التي تحولت إلى قرى صفيح تفتقر إلى أبسط الخدمات. كانت هذه الأحياء تعاني من اكتظاظ سكاني، وغياب البنية التحتية، مما زاد من معاناة السكان المحليين وعزز الفجوة الطبقية بينهم وبين المستعمرين.
- تغيير أسماء الشوارع: محو الهوية وفرض السيطرة الرمزية: سعى المحتل إلى طمس المعالم الثقافية والتاريخية للمدينة عبر تغيير أسماء الشوارع الرئيسية، واستبدالها بأسماء إيطالية تخلد قادته أو أحداثاً استعمارية. فتحول:
- شارع عمر المختار رمز المقاومة الليبية إلى”شارع بالبو نسبة للقائد الإيطالي رودولف غراتسياني.
- شارع 24 ديسمبر الذي يمثل ذكرى استقلال ليبيا إلى “شارع كوستا نسو تشانو وزير الخارجية الإيطالي.
- سياسة التهميش والتحكم في الذاكرة الجمعية: لم تكن هذه السياسات العمرانية مجرد تغييرات في الشكل المعماري، بل كانت أدوات للسيطرة الاجتماعية والثقافية، حيث هدف الاستعمار إلى: إقصاء الليبيين عن المراكز الحضرية الحديثة. وفرض هوية جديدة على المدينة عبر محو رموزها الأصلية. بالإضافة الي تعزيز التراتبية العنصرية التي جعلت من الإيطاليين طبقة مميزة على حساب السكان الأصليين.
هكذا، تحولت المدن الليبية الكبرى إلى نموذج صارخ للتمييز العمراني، الذي لا يزال تأثيره ملموساً حتى في الذاكرة الشعبية والنسيج العمراني للمدن.
- التخطيط ما بعد الاحتلال الإيطالي (1943) في ليبيا:
بعد انتهاء الحقبة الاستعمارية الإيطالية، واجهت ليبيا تحديات كبيرة في مجال التخطيط العمراني بسبب نقص الكوادر المحلية المتخصصة. وقد تم تكليف الإدارات الهندسية الأجنبية بمهمة تخطيط المدن الليبية، حيث توزعت المهام حسب المناطق: في إقليم برقة، تولت الإدارة الهندسية الإنجليزية المصرية مسؤولية التخطيط العمراني، بينما تكفلت الإدارة الهندسية الفرنسية بأعمال التخطيط في إقليم فزان. أما في منطقة طرابلس، فقد استمرت الإدارة الهندسية الإيطالية في ممارسة مهامها التخطيطية. هذا التوزيع الجغرافي للمسؤوليات التخطيطية يعكس التأثيرات الدولية المتباينة على المناطق الليبية المختلفة في مرحلة ما بعد الاستعمار، حيث عملت كل إدارة على تطبيق معاييرها وخبراتها الخاصة في مجال التخطيط الحضري، مما ساهم في تشكيل أنماط عمرانية مميزة في كل إقليم من أقاليم ليبيا خلال تلك الفترة الانتقالية.7
ثالثا: نبذة تاريخية عن منطقة الدراسة:
لمحة تاريخية عن التطور العمراني لمدينة درنة من العصور القديمة وحتى عام 1943:
تقع مدينة درنة على الساحل الشرقي الليبي، وتُعد من أقدم المدن المأهولة في المنطقة، حيث تعود آثارها إلى العصور القديمة. حيث مرت المدينة بمراحل تطورية رئيسية:
- العصر الروماني (96 ق.م – 439 م): سيطر الرومان على المدينة، واستخدموا كهوفها للعبادة وميناءها للنشاط التجاري.
- عصر الوندال (439 – 535 م): عانت المدينة من عدم الاستقرار السياسي خلال هذه الفترة.
- الفتح الإسلامي (643 م): شهدت المدينة نهضة عمرانية مع توسعها داخل الأسوار وازدهار المساجد والأسواق.
- الحكم العثماني (1711 – 1911): تميزت هذه الفترة بتطور عمراني ملحوظ شمل إنشاء الميناء والمساجد والأسواق المسقوفة.
- الاحتلال الإيطالي (1911-1943): خرج التخطيط العمراني خارج الأسوار، مع إنشاء البنية التحتية الحديثة من شوارع ومنتزهات، مما أعطى المدينة طابعها الحضري الجديد.
هذه التحولات التاريخية شكلت الملامح العمرانية الأساسية لمدينة درنة عبر العصور.8
وصف مدينة درنة التقليدية قبل دخول الاستعمار 1911:
وصف المدينة عمرانيا: يتميز النسيج الحضري للمدينة بمعالم واضحة تتجلى في عدة أبعاد، انظر شكل (5)، حيث تتخذ المدينة شكلاً منتظماً إلى حد ما، يقترب من المربع انظر الشكل (1)، مما يميزها عن المدن التقليدية الأخرى ذات الأشكال العضوية غير المنتظمة. وتتسم شوارعها بأنها شبه مستقيمة، تتفرع من الطرق الرئيسية إلى الأفرع الثانوية، لتنتهي بنهايات مسدودة. كما تتميز المباني بأنها متلاصقة بانتظام، تتخللها فناءات داخلية تضيف طابعاً مميزاً على التصميم العمراني انظر شكل (6) للتوضيح أكثر. بالإضافة إلى ذلك، تضم المدينة ثلاث ساحات رئيسية، أكبرها الساحة الواقعة أمام المسجد الكبير، بينما توجد ساحتان أخريان تتفرعان من أحد جوانب السوق نحو الغرب، وتطل عليهما محلات تجارية ذات طابع خارجي مميز، مما يعزز الحيوية الحضرية للمدينة.9
شكل (5) مخطط مدينة درنة، (مصدر 10)، مدينة درنة قبل دخول الاستعمار
الإيطالي، (أرشيف م. الأطرش)
شكل (6) الخصائص والسمات للمدينة التقليدية قبل دول الاحلال الإيطالي
لمدينة درنة. (تحليل الباحث)
هذه الخصائص جعلت من المدينة نموذجاً للمدينة الإسلامية التقليدية التي تجمع بين الوظيفة والجمال، مع الحفاظ على الخصوصية الاجتماعية والثقافية لأهلها.
مراحل التطور العمراني لمدينة درنة:
- تطور مدينة درنة في العهد الأندلسي (1510): شهدت مدينة درنة فترة ازدهار حضري وعمراني مع قدوم الأسر الأندلسية المهاجرة، حيث شكل وصول المجموعة الأولى عام 1510 والمجموعة الثانية عام 1530 محطة تاريخية مهمة للمدينة، خاصة بعد سقوط طرابلس في أيدي الإسبان. حيث ساهم الأندلسيون في تنشيط الحياة العمرانية من خلال استثمار الأراضي الزراعية، وشق القنوات المائية، وإقامة المباني السكنية ذات الطراز الأندلسي المميز بالقباب والأقواس. كما قاموا ببناء السور القديم للمدينة لحمايتها من الهجمات المحتملة، حيث أحاطوا المدينة بجدار عالٍ شُيد من المواد المحلية كالحجارة والطوب، إلى جانب إنشاء مطاحن للحبوب انظر الشكل ادناه:11
شكل (7)1: مخطط المدينة القديمة درنة. (رسم الباحث، 12)، 2: المسجد العتيق (أرشيف م. الأطرش)
شكل (8) يوضح خصائص العمرانية للمدينة خلال العهد الاندلسي. (تحليل الباحث)
هذه الفترة مثلت نقطة تحول مهمة في تاريخ المدينة، حيث ترك الأندلسيون بصمة واضحة في العمارة والتخطيط الحضري لدرنة، مما أعطاها طابعاً مميزاً ظل واضحاً حتى بعد نهاية هذه الحقبة.
- تطور مدينة درنة في العهد العثماني (1835-1911): خضعت ليبيا للسيطرة العثمانية لما يقارب ثلاثة قرون ونصف، وهي فترة شهدت ركوداً تنموياً في الوقت الذي كانت فيه المدن الأوروبية تشهد نهضة صناعية وتخطيطية كبرى. فقد بقيت المدن الليبية، حبيسة أسوارها التقليدية، حيث لم تتبن الدولة العثمانية رؤية تخطيطية شاملة، بل اقتصرت على إصلاحات محدودة لم ترق إلى مستوى التطور الحضري الأوروبي. فلقد اتسم النهج العثماني بمركزية القرار، حيث كان الوالي يعهد للبلديات بمهام التطوير مع الاحتفاظ بحق الموافقة النهائية على المشاريع، التي كانت تعتبر في كثير من الأحيان أسراراً عسكرية غير قابلة للنشر. حيث تمثلت هذه الإصلاحات المحدودة في توفير نوافير مياه عامة، ومد خطوط الهاتف، وزراعة الأشجار في الأماكن العامة، بالإضافة إلى توجيه التوسع العمراني خارج الأسوار، وبناء بعض المنشآت الإدارية التابعة للسلطة. وفي هذا الصدد، يرى الباحث علي عمورة أن هذه المرحلة “تمثل تطوراً في إدارة البلديات وتحسين الخدمات أكثر منها فهماً حقيقياً للتخطيط الحضري”. وقد تجلى هذا النهج في مدينة درنة بشكل خاص، حيث برزت بعض المعالم العمرانية المهمة. ففي عهد محمد باي، تم تشييد المسجد الكبير وشق قنوات الري التي ساهمت في توسيع الرقعة الزراعية. أما في العهد العثماني الثاني عام 1865، عندما أصبحت درنة مرتبطة مباشرة بإسطنبول، شهدت المدينة إصلاحات عمرانية واسعة شملت إنشاء ميناء بحري تجاري، وبناء مساجد جديدة، وتطوير الأسواق المسقوفة وساحات التجمع. نتيجة للزيادة السكانية، توسعت درنة خارج أسوارها القديمة، حيث تشكلت ثلاث ضواحي جديدة هي الجبيلة والمغار وأبو منصور، بالإضافة إلى امتداد العمران على جانبي الوادي الشمالي انظر الشكل (9,10,11). وعلى الرغم من أن هذه المناطق الجديدة لم تصل إلى نفس كثافة النواة الأصلية للمدينة، إلا أنها شكلت نموذجاً للتوسع العمراني المنظم والمتراص الذي ميز تلك الفترة.13
شكل (9) مخطط المدينة فترة الحكم العثماني، شكل (10) رسم تحليلي
لنفس المخطط (رسم الباحث، مصدر 14)
شكل (11) يوضح الخصائص العمرانية للمدينة تحت العهد العثماني، (تحليل الباحث)
هذه الفترة مثلت مرحلة انتقالية في عمران درنة، حيث بدأت ملامح المدينة الحديثة تظهر مع الحفاظ على الطابع التقليدي للنواة القديمة. حيث تتميز مدينة درنة بموقعها الاستراتيجي، ومينائها التجاري، ومواردها الطبيعية، ما جعلها تشهد مراحل تطور حضري مرتبطة بالفترات التاريخية المختلفة. حيث خرجت المدينة عن أسوارها بسبب توافر المساحات، لكن الاستعمار الإيطالي تسبب في تحولات عمرانية غير مألوفة، حيث ظهرت أحياء جديدة في الغرب، تخدم مصالح الإيطاليين بالدرجة الأولى.
التحليل والمناقشة:
تطور المدينة في عهد الإيطالي: التحولات العمرانية والمعمارية التي شهدتها مدينة درنة خلال فترة الاستعمار الإيطالي (1911-1943)
أولا: سياسة التخطيط العمراني لمدينة درنة تحت الاحتلال الإيطالي (1935): في بداية عام 1935، شهدت مدينة درنة تحولاً عمرانياً واضحاً تحت السيطرة الإيطالية، حيث ركزت سلطات الاحتلال على تطوير البنية التحتية والمرافق الخدمية لصالح المستوطنين الإيطاليين. فقد ظهرت أحياء سكنية متكاملة في القسم الغربي من المدينة خُصصت حصرياً للمدنيين الإيطاليين، بينما تم إنشاء ثكنة عسكرية كبيرة في المنطقة الجنوبية الغربية عُرفت لاحقاً باسم معسكر عزوز. كما أولت السلطات الإيطالية اهتماماً ملحوظاً بتحسين شبكة الطرق، حيث تم شق طرق جديدة وتوسعة الطرق القائمة لتسهيل حركة العربات العسكرية والمدنية. ولم تقتصر أعمال التطوير على ذلك، بل شملت أيضاً رصف الميادين العامة وزراعة الأشجار على جوانب الطرق، مما أعطى المدينة مظهراً حضارياً جديداً. إلى جانب ذلك، تم إنشاء العديد من المرافق العامة التي تخدم المجتمع الإيطالي، مثل المطاعم والمقاهي الفاخرة، بالإضافة إلى المباني الحكومية التي سهلت إدارة شؤون المستعمرة، انظر الشكل ادناه. 16
شكل (12) مخطط المدينة فترة الإيطالي. (رسم وتلوين الباحث، 17)
ثالثا: وصف الحي الإيطالي: يتميز النسيج العمراني للحي الإيطالي باتساع المساحات وتباعد المباني، حيث تتناغم الوحدات السكنية مع الشوارع الواسعة والمساحات الخضراء. وتبرز الفيلات السكنية بتصاميمها المعمارية الفريدة، التي تجمع بين الزخارف الخارجية البديعة والواجهات المفتوحة على الشرفات الواسعة والنوافذ الزجاجية العالية، مما يضفي عليها طابعاً من الفخامة والأناقة. تحيط بهذه الفيلات حدائق خاصة مزروعة بأشجار ونباتات متنوعة، فيما تعزز الشوارع العريضة المحيطة بها إحساساً بالراحة والخصوصية. ويظل هذا النمط المعماري أحد أضخم وأروع الأنماط العمرانية التي شهدتها المدينة خلال تلك الحقبة، حيث يجمع بين الجمال البصري والوظيفية العالية التي تناسب المحتل، انظر بعض المعالم الإيطالية في الشكل (13). 18
شكل (13) على اليمين: مبنى التموين_ على اليسار: مبنى المستشفى الإيطالي، (أرشيف م. الأطرش)
كما يُعد الحي الإيطالي في درنة من أبرز المعالم التي تناولها الكاتب الشيخ مصطفى الطرابلسي في كتابه “درنة الزاهرة” (1999)، حيث وصفه بدقة كشاهد عيان على أحداث تاريخية مهمة شهدتها المدينة، مما جعل كتابه مصدرًا رئيسيًا لتلك الحقبة. حيث تميز الحي الإيطالي ليس فقط بتصميماته المعمارية الفاخرة، بل أيضًا ببنيتِه التحتية المتطورة، التي تعكس الرؤية الاستعمارية الإيطالية للمدينة، يوضح الشكل (14) النسيج الحضري لتوزيع المباني الإيطالية في الجانب الشمالي الشرقي من المدينة:
شكل (14) نموذج توضيحي لأحياء الاحتلال الايطالي. (تحليل الباحث 19)
ظهر الرسم السور الذي بناه المستعمر أثناء احتلاله للمدينة، وهو دليل على المعاناة التي عاشها السكان داخل هذا النطاق لسنوات طويلة. كما أن التوسع العمراني للمدينة التقليدية كان محدودًا بسبب ضغوطات عدة، منها:
- تقييد التطور العمراني: حيث أوقف الاستعمار التوسع في البنى التحتية مثل الشوارع والساحات، واقتصر على بناء مساكن بسيطة دون امتداد حقيقي مع المدينة الأصلية.
- إنشاء أحياء منفصلة: بنى المستعمر أحياء جديدة خارج المدينة بطراز غربي، واحتلت مواقع استراتيجية كواجهة حضارية مغايرة.
- تغيير الهوية العمرانية: أحاط المدينة بمبانٍ وشوارع غريبة عن طابعها، مما أفقدها ارتباطها بماضيها العريق وغنى تراثها المعماري.
- تدهور الاقتصاد المحلي: فقدت المدينة مصادر دعمها الاقتصادي، خاصة الزراعة والتجارة، مما أثر على نموها وتطورها.
تحليل استنتاجي للحي الإيطالي: كّل الاستعمار مرحلة انقطاع في التطور العمراني والحضاري للمدينة القديمة، حيث أوقف نموها الطبيعي وحوّلها إلى كيان هجين. فخلال فترة الاحتلال، تم فرض نموذج عمراني غريب من خلال شق طرق واسعة وبناء عمارات منفصلة ذات واجهات مزخرفة تتميز بشرفات واسعة ونوافذ عالية، مع الالتزام الصارم بالمواصفات الإيطالية الدقيقة حتى في تفاصيل فتحات الأبواب والنوافذ. ولتحقيق هذا التحول، تم هدم أجزاء كبيرة من النسيج العمراني التقليدي خارج الأسوار لإفساح المجال للأحياء الجديدة، التي بناها المستعمرون وأبناء المدينة على حد سواء، مثل الحي الشمالي الغربي الذي أصبح واجهة غربية للمدينة عند مدخلها الغربي. لقد تجلّى تأثير الاستعمار على مستويات متعددة: فقد قيّد التوسع العمراني الطبيعي للمدينة، حيث اقتصر على بناء مساكن بسيطة دون اتصال عضوي بالمدينة الأم. كما أنشأ أحياء منفصلة بخصائص غربية في مواقع استراتيجية لتعكس الهيمنة الاستعمارية. وأحاط المدينة ببنية عمرانية غريبة تناقضت مع تراثها المعماري الثري الذي ورثته عن الأجداد، مما أدى إلى قطيعة بين ماضيها وحاضرها. كما تسببت هذه السياسات في تدهور القاعدة الاقتصادية للمدينة التي كانت تعتمد على الزراعة والتجارة كمحركين أساسيين للتطور الحضري، مما أفقدها القدرة على النمو العضوي والمستدام.
نقد وتحليل مما سبق: يعكس تخطيط الحي الإيطالي سياسة الاستعمار الإيطالي الرامية إلى: الهيمنة الإدارية عبر مراكز الحكم والمحاكم، والسيطرة الاقتصادية من خلال السيطرة على الأراضي والموانئ والجمارك، كذلك الفصل العمراني بين المناطق القديمة والحديثة، مما عزز التمايز الطبقي والاجتماعي، مع الاستغلال الزراعي والتجاري عبر المشاريع مثل المستنبت الزراعي والميناء الجديد.
مقارنة بين الحي الإيطالي والحي التقليدي اثناء فترة الاحتلال:
يوضح المخطط في الشكل (15) الاختلاف الواضح في تخطيط الحي التقليدي لمدينة درنة والحي الإيطالي من حيث توزيع المباني وتخطيطي الشوارع.
شكل (15) تمثل الفرق بين الحي الإيطالي والحي التقليدي. (تحليل الباحث 20)
انظر الجدول ادناه يوضح مقارنة من حيث سمات التخطيط والمرافق العامة والهوية مع توضيح للأبعاد الاجتماعية والاقتصادية:
جدول (1) يوضح الفرق بين الحي الإيطالي والحي التقليدي. (تحليل الباحث)
المكون |
الحي الإيطالي: |
الحي التقليدي: |
التخطيط العمراني والبنية التحتية |
|
|
الخدمات والمرافق |
|
|
الهوية المعمارية والثقافية |
|
|
الأبعاد الاجتماعية والاقتصادية |
|
|
السيطرة |
: رمز الهيمنة والحداثة المقرضة. |
شاهد على الإقصاء والمقاومة الصامتة. |
هذه العناصر مجتمعة تُظهر كيف استُخدم العمران والإدارة كأدوات للسيطرة الاستعمارية، مع تركيز على تعزيز النفوذ الإيطالي سياسياً واقتصادياً واجتماعياً.
التحولات على اقتصاد المدينة وهويتها الحضرية والاجتماعية
النشاط التجاري للاحتلال الإيطالي في مدينة درنة:
انعكس هذا النشاط التجاري بشكل واضح على حركة الميناء، الذي شهد تدفقًا كبيرًا للسفن التجارية. حيث بلغ عدد المؤسسات البحرية العاملة في الميناء ست مؤسسات، تخصصت في إدارة السفن التي تربط درنة بالموانئ الأخرى. وكانت هناك سفن نظامية تنطلق كل أسبوعين، تربط المدينة بمواني الإسكندرية وأزمير وتونس، بالإضافة إلى السفن الداخلية التي توصلها بمواني طرابلس وبنغازي. كما كان الميناء يستقبل في فصلي الربيع والخريف المواكب والسفن اليونانية، التي كانت تحمل معها الفواكه والسلع المحلية، مما أضاف حيويةً إضافيةً على النشاط التجاري. ومع هذا الازدهار، كانت السيطرة على النشاط التجاري في درنة في أيدي الإيطاليين واليهود وأفراد الجاليات اليونانية، الذين احتكروا معظم الأعمال التجارية والمؤسسات الاقتصادية في تلك الفترة.
تحليل مما سبق: سيطرة الأجانب على النشاط التجاري: حيث احتكر الإيطاليون معظم النشاطات التجارية وسيطر اليهود على جزء كبير من الحركة التجارية كما شاركت الجاليات اليونانية في هذا النشاط واقتصر دور السكان المحليين على العمل كأجراء.
الآثار والتداعيات: تحول درنة إلى مركز تجاري مهم على الساحل الليبي بالإضافة الي ظهور تفاوت اقتصادي كبير بين المستوطنين والسكان الأصليين مع تهميش التجار المحليين لصالح التجار الأجانب واعتماد الاقتصاد المحلي بشكل كبير على التبادل مع الخارج. هذه التحولات التجارية كانت جزءاً من السياسة الاستعمارية التي هدفت إلى: تحويل ليبيا إلى سوق استهلاكية للبضائع الإيطالية واستغلال الموارد المحلية لصالح الاقتصاد الإيطالي بالإضافة الي إضعاف النشاط التجاري المحلي المستقل.21
- الزراعة في درنة خلال العهد الإيطالي ثروة طبيعية استُغلت لخدمة المستعمر:
تمتعت مدينة درنة بخصوبة زراعية استثنائية جعلتها واحدة من أهم المناطق الإنتاجية في ليبيا خلال الحقبة الإيطالية. وقد ترك لنا المؤرخون والكتاب الإيطاليون شهادات تكشف عن مدى غنى هذه المنطقة وطرق استغلال المستعمرين لمواردها.
- الواحة الخصبة: 160 هكتاراً من الجنان: امتدت بساتين درنة الخضراء على مساحة 160 هكتاراً، زاخرة بأشجار النخيل المثمرة والموز والفواكه المتنوعة، إلى جانب محاصيل الخضروات والبقول التي كانت تُروى بمياه ثلاثة عيون رئيسية وهي عين درنة والبلاد وبو منصور.
- السهول الشرقية: 5000 هكتار من الذهب الأخضر: في الجانب الشرقي من المدينة، امتدت منطقة الفتائح بسهولها الواسعة التي تزيد مساحتها عن خمسة آلاف هكتار، وهي من أخصب الأراضي في المنطقة. وقد أحاطت بها ينابيع مائية جعلتها صالحة للزراعة على مدار العام.
- الغرب والجنوب: تنوع بيئي فريد: حيث تميز الجانب الغربي بتربة خصبة جديدة تغذيها مياه جوفية غزيرة. أما المناطق الجنوبية فقد تخللتها الأودية والمنعطفات الطبيعية والغابات التي أنتجت أجود أنواع الفواكه.22
الآثار المترتبة: ازدهار انتقائي لخدمة المستعمر: رغم الثروة الزراعية الهائلة التي تمتعت بها درنة، إلا أن الاستعمار الإيطالي وجهها بالكامل لخدمة اقتصاده، حيث: صُدرت أجود المحاصيل إلى إيطاليا وحُرم السكان المحليون من الاستفادة الكاملة من خيرات أرضهم. كما بقي الليبيون عمالاً في أراضيهم التي صادرها المستعمر. وهكذا، مثلت الزراعة في درنة خلال تلك الفترة نموذجاً صارخاً للاستغلال الاستعماري، حيث حوّل المحتل موارد البلاد لخدمة مصالحه، بينما ظل أهلها يعانون التهميش.
- تطوير شبكة الري وإمدادات المياه في العهد الإيطالي:
في إطار التحديثات التي شهدتها مدينة درنة خلال الفترة الإيطالية، أولت السلطات اهتمامًا كبيرًا بشبكة الري وتوصيل المياه، حيث تولت البلدية مهمة إصلاح العديد من القنوات المائية وتحسين نظام الري. كما تم فرض رسوم نقدية على استخدام المياه لضمان صيانة الشبكة وتطويرها. ومن أبرز الإنجازات في هذا المجال توصيل مياه الشرب للمنشآت العامة والمؤسسات الحكومية، بالإضافة إلى تزويد مساكن الإيطاليين بالمياه النظيفة. كما تم إنشاء نوافير مياه في الميادين العامة، حيث كان السكان المحليون يحصلون منها على مياه الشرب، مما ساهم في تحسين الظروف المعيشية وتوفير خدمات أساسية لم تكن متوفرة من قبل. هذه المشاريع لم تكن فقط لخدمة الجانب العملي، بل جاءت أيضًا في إطار تحسين البنية التحتية للمدينة وتعزيز الوجود الإيطالي من خلال توفير مرافق حديثة. 23
التحسينات العامة: أُنشئت نوافير مياه في الميادين العامة، وأصبحت هذه النوافير مصدراً لمياه الشرب للسكان المحليين، كما رُوعي في التصميم الجمالي لهذه المنشآت المائية.
الآثار المترتبة: تحسن نسبي في خدمات الري الزراعي كما تم توفير مياه شرب أكثر أماناً للمنشآت الحيوية مع ظهور تفاوت في الخدمات بين الأحياء الإيطالية والمناطق المحلية وكان حينها بداية التحول نحو نظام إدارة مياه مركزي ومنظم.
هذه التحسينات كانت جزءاً من سياسة استعمارية هدفت لتوفير بيئة معيشية مناسبة للمستوطنين الإيطاليين، بينما ظل معظم السكان المحليين يعتمدون على مصادر المياه التقليدية.
المعالم الإيطالية في مدينة درنة: تمثل المعالم الإيطالية في مدينة درنة شاهداً حياً على فترة الاحتلال التي خضعت فيها المدينة للنفوذ الإيطالي، حيث ترك المُستعمر بصماته المعمارية والثقافية، حيث يوضح الجدول (2) والشكل (17) بعض هذه المعالم:
شكل (16) معالم إيطالية في شارع الفتح بمدينة درنة _ قصر الحاكم على اليسار
_ قصر الاميرات على اليمين، (أرشيف م. الأطرش)
جدول (2) يوضع المعالم العمرانية للمدينة تحت حكم الاحتلال الإيطالي.24
المكون |
الخصائص والسمات |
البنية التحتية والدفاع |
السور: شُيّد كعنصر دفاعي يفصل بين الأحياء القديمة والمناطق الحديثة، مما يعكس التقسيم الإداري والاجتماعي الذي فرضته السلطات الاستعمارية. الجسر: يربط بين ضفتي المدينة الشرقية والغربية، ليسهل حركة المواصلات ويعزز السيطرة على طرفي المدينة. |
المراكز الإدارية والحكومية |
مقر المتصرفية: كان مركز الإدارة السياسية، ويجسد الهيمنة الإيطالية على إدارة شؤون المدينة. المكتب العقاري (1914): أنشئ لتثبيت ملكية الأراضي والمباني والمزارع، مما سهل للسلطات الإيطالية السيطرة على الأراضي واستغلالها اقتصادياً. المحكمة الإيطالية (التريبونار): كانت موجودة ضمن مبنى مكتب البريد (1941)، مما يدل على دمج النظام القضائي بالإدارة المدنية لتعزيز السيطرة القانونية. |
الخدمات العامة والرعاية الصحية |
المستشفى المدني (1914): بُني شمال شرق المدينة لخدمة المواطنين والمستوطنين الإيطاليين، لكنه كان جزءاً من سياسة الفصل بين الخدمات المقدمة للأهالي والمستعمرين. دائرة المستنبت الزراعي (عقد 1920): أُنشئت في حي الجبيلة لتطوير الزراعة، لكنها كانت تهدف أيضاً إلى تعزيز الاقتصاد الاستعماري عبر استغلال الأراضي الخصبة. |
التطورات الاقتصادية والملاحية |
المرسى الجديد: أُلغِي المرسى العثماني القديم واستُبدل بمرسى حديث شرق المدينة، لتعزيز التجارة البحرية وتسهيل حركة البضائع لصالح الاقتصاد الاستعماري. دائرة الجمارك ومركز الحرس الجمركي: تطورت مع توسع الحركة الملاحية، حيث وصل عدد مؤسسات المواصلات البحرية إلى ستة، مما يدل على الأهمية الاستراتيجية للمدينة كمركز تجاري. |
تحليل لاهم المعالم وتأثيرها على مجتمع المدينة:
- جسر درنة: معلم هندسي إيطالي يربط ضفتي المدينة (1914-1916):هذا الجسر الذي جمع بين المتانة والوظيفية، ما زال يقف شاهداً على حقبة شهدت تحولات جذرية في بنية المدينة وتخطيطها العمراني، بينما يحمل في طياته تناقضات السياسة الاستعمارية التي جمعت بين التحسينات العمرانية وأهداف الهيمنة، انظر الجدول(3).
جدول (3) يوضح خصائص وسمات الجسر الرابط بين ضفتي المدينة.
المكون |
الخصائص والسمات |
المواصفات الفنية للجسر: |
|
الأهمية الحضرية: |
|
السياق التاريخي: |
|
الوظيفة الرمزية: |
|
هذا الجسر الذي جمع بين المتانة والوظيفية، ما زال يقف شاهداً على حقبة شهدت تحولات جذرية في بنية المدينة وتخطيطها العمراني، بينما يحمل في طياته تناقضات السياسة الاستعمارية التي جمعت بين التحسينات العمرانية وأهداف الهيمنة.
- السور الإيطالي في درنة: في إطار سياسة السيطرة الأمنية، شرعت سلطات الاحتلال الإيطالي ببناء سورٍ ضخم حول مدينة درنة بعد سنواتٍ قليلة من احتلالها، تميّز هذا السور بمواصفاتٍ عسكرية دقيقة، انظر المخطط ادناه في شكل (17) حيث يوضح شكل السور المحيط بالمدينة، كذلك الجدول (4) يوضح خصائص وسمات السور.
شكل (17) شكل السور المحيط بالمدينة. (تحليل الباحث 25)
جدول (4) يوضح معالم وخصائص السور.
المكون |
الخصائص والسمات |
المواصفات الهندسية للسور: |
|
السياق الأمني لبناء السور: |
|
التميّز التاريخي لسور درنة: |
|
الدلالات التاريخية: |
|
يُجسِّد السور الذي بناه المستعمر الإيطالي حول المدينة شاهداً صارخاً على سياسة القمع والعزل التي فرضها على السكان، حيث تحوّل إلى رمز مادي للمعاناة التي عاشها أهالي درنة لسنوات طويلة. لم يكن هذا السور مجرد حاجز دفاعي، بل كان أداة لفرض الحصار العمراني والاجتماعي، حيث حُوصرت المدينة التقليدية داخله، بينما توسعت الأحياء الإيطالية خارجه بكل حرية، مما عمّق الفجوة بين المجتمعين.
نقد للمعالم الإيطالية وتأثيرها على المجتمع والمدينة:
- تقييد التوسع العمراني: كبح تطور المدينة
واجهت المدينة التقليدية سياسة ممنهجة لوقف تطورها، تجلّت في:
- منع التوسع العمراني: اوقف الاستعمار تطوير البنى التحتية كالشوارع والساحات العامة، واقتصر التوسع على بناء مساكن بسيطة متكدسة، دون أي تخطيط يتناسب مع امتداد المدينة الأم أو يحفظ هويتها.
- الإهمال المتعمد: تُركت الأحياء الليبية بلا خدمات أساسية، بينما شُيِّدت الأحياء الإيطالية خارج السور بمواصفات عصرية، كواجهة مزيفة تعكس “الحضارة الاستعمارية”.
- القطع مع الموروث العمراني: طمس الهوية: حرص المستعمر على فصل المدينة عن تاريخها عبر:
- تشويه النسيج المعماري: بإحاطتها بمبانٍ غريبة عن طرازها المحلي، كالشوارع العريضة والمباني الإيطالية التي تنافر البنيان التقليدي.
- تجريدها من مهاراتها العمرانية: حيثُ تجاهل التراث المعماري الليبي المتميز، الذي ورثته الأجيال عن الأجداد، واستبدله بنمطٍ غريبٍ يُكرّس التبعية الثقافية.
- الانهيار الاقتصادي: ضرب مصادر الحياة
لم تقتصر السياسات الاستعمارية على العمران، بل امتدت لـشلِّ الاقتصاد المحلي، الذي كان يعتمد على:
- الزراعة: التي تُراجعت بسبب مصادرة الأراضي الخصبة لصالح المستوطنين.
- التجارة: التي احتكرها الإيطاليون واليهود، ففقدت المدينة سيطرتها على مواردها.
- السور وقمع الاستعمار لمجتمع المدينة:
لم يكن السور الاستعماري مجرد جدار حجري، بل كان أداةً لـ تجميد الزمن داخل المدينة القديمة، بينما تطور ما خارجه وفقاً لمصالح المحتل. اليوم، يُذكّرنا هذا السور – وما خلفه من تشويه عمراني واقتصادي – بمرحلةٍ ظلمت المدينة وسكانها، لكنها أيضاً كشفت عن صلابة المجتمع الذي حافظ على هويته رغم كل محاولات الطمس. هذا السور الذي أراد منه المحتلّ أن يكون أداةً للسيطرة، تحوّل في الوعي الجمعي إلى انه يعتبر شاهدٍ مادي على بطولة المقاومة ورمزٍ للقمع الاستعماري بالإضافة الي انه يعتبر دليل تاريخي على شراسة الصراع في المنطقة وإرثٍ معماري يروي فصلًا من فصول المقاومة الشعبية حيث ظلّ هذا السور حتى اليوم تذكرةً صارخةً لسياسات القمع الاستعماري، وشاهداً على مقاومة أهالي درنة التي اضطرت المحتلّ لاتخاذ إجراءات استثنائية لم يشهدها أي مكان آخر في ليبيا.
تحليل نتائج البحث:
أولا: تحليل التأثيرات العمرانية السلبية للاستعمار الإيطالي في درنة:
شهدت مدينة درنة خلال السنوات التي سبقت الحرب العالمية الثانية نهضة عمرانية واسعة تحت الحكم الإيطالي، لكن هذه التغييرات لم تكن تهدف إلى تطوير المدينة لصالح سكانها الأصليين، بل كانت جزءًا من سياسة استعمارية تقوم على مصادرة الأراضي وإعادة تشكيل المدينة لخدمة المستوطنين الإيطاليين، بينما ظل الليبيون يعانون التهميش والإقصاء.
مظاهر التغيير العمراني والاقتصادي:
- مصادرة الأراضي وإقامة الأحياء الإيطالية: ادعت إيطاليا أن الأراضي التي استولت عليها كانت ملكًا للدولة العثمانية، ثم حولتها إلى ملكية إيطالية. كما أُنشئ حي خاص بالمستعمرين الإيطاليين في المنطقة الغربية من المدينة، بينما طُرد السكان المحليون إلى أطرافها. وبُنيت ثكنة عسكرية (ساباتيني (لتأمين الوجود العسكري الإيطالي.
- تحسين البنية التحتية (لصالح المستعمرين فقط): حيث شُقت الطرق الواسعة ورُصفت الميادين، لكنها كانت تخدم في المقام الأول الأحياء الإيطالية. وجُددت بعض المؤسسات الحكومية، لكنها كانت تحت السيطرة الاستعمارية.
- النشاط الاقتصادي المقتصر على المستعمرين: ازدهرت حركة التجارة والنقل البحري، خاصة بين درنة والموانئ الليبية والإيطالية. وظل الليبيون مجرد أجراء وعمال في هذه المنشآت، دون تملك أو استفادة حقيقية من التطور الاقتصادي.
- التمييز العنصري والعمراني: كانت الأحياء الجديدة مقصورًة على الإيطاليين، بينما أُجبر الليبيون على العيش في مناطق قديمة أو عشوائية. ولم يكن التحديث العمراني لخدمة السكان الأصليين، بل لتعزيز السيطرة الاستعمارية وإضفاء الطابع الأوروبي على المدينة. كما تحولت درنة إلى نموذج للفصل العنصري، حيث ظهرت مدينة ثنائية: جزء حديث للأوروبيين، وآخر مهمش لأهل البلد. ختاما رغم المظاهر العمرانية “الحديثة” التي أدخلها الإيطاليون، إلا أن سياساتهم كانت قائمة على الاستغلال والتمييز. فالتغييرات التي حدثت لم تكن تنموية بالمعنى الحقيقي، بل كانت أداة لتعزيز الهيمنة الاستعمارية وطمس الهوية المحلية. وهكذا، تحولت درنة في تلك الفترة إلى مثال صارخ عن كيفية استخدام العمران كأداة للسيطرة والتفكيك الاجتماعي.
ثانيا: تأثير الاستعمار على الهوية الحضرية لدرنة:
في العهد الإيطالي، اتبع الاستعمار استراتيجية عمرانية هدفت إلى طمس المعالم الحضارية المحلية وإحلال هوية معمارية جديدة تخدم مصالحه. وتحوَّلت منطقة الجبيليّة لأول مرة إلى مباني عمودية متعددة الطوابق، صُممت لاستيعاب أكبر عدد ممكن من المستوطنين الإيطاليين، بينما نُزع ملكية الأراضي من السكان الأصليين وأُجبروا على الانتقال إلى مناطق أكثر فقراً. أدت هذه السياسة إلى ظهور تجمعات سكنية عشوائية مكونة من أكواخ الصفيح على أطراف الوادي، بينما شُقت شبكة طرق حديثة لتلبية احتياجات المستعمرين. كما بُنيت مباني حكومية وعصرية بارزة، مثل دار البلدية، التي جسَّدت النمط الأوروبي. في تلك الفترة، جمعت المدينة بين القديم والجديد، حيث برزت تناقضات حادة بين الأحياء التقليدية المهمَّشة والأحياء الحديثة المخصصة للمستعمِرين واليهود، إلى جانب مناطق فوضوية مكتظة بالفقراء. ولم تتوقف التغييرات عند ذلك، فهُدمت أجزاء من المدينة القديمة خارج السور لإنشاء شوارع عريضة تتناسب مع ظهور السيارات كوسيلة نقل أساسية. بهذه الطريقة، فرض الاستعمار ازدواجية عمرانية واجتماعية، عززت الفصل بين الثقافتين: القديمة المحلية والحديثة المستورَدة، مما خلق مشهداً متناقضاً يعكس سياسة التمييز والتهميش المنهجية.
ثالثا: أثر التحولات الاقتصادية (التجارة والزراعة والري) في العهد الإيطالي على الهوية الاجتماعية والحضرية لسكان درنة:
شهدت مدينة درنة تحولات اقتصادية وعمرانية جذرية خلال الحقبة الاستعمارية الإيطالية، تركت آثاراً عميقة على الهوية الاجتماعية والحضرية للسكان، يمكن رصدها عبر المحاور التالية:
- تفكك البنية الاجتماعية التقليدية: تحول الأدوار الاقتصادية: تحول السكان من ملاك لأراضيهم إلى مجرد أجراء وعمال في أراضيهم المصادرة، مما أضعف نظام الملكية التقليدي. واضمحلال الروابط المجتمعية: أدى تشريد السكان من أحيائهم الأصلية إلى تجمعات عشوائية إلى إضعاف التماسك الاجتماعي القبلي والعائلي. بالإضافة الي ظهور طبقة عاملة حضرية: نشأت لأول مرة في المدينة طبقة عاملة حضرية فقيرة تعتمد كلياً على أجور العمل لدى المستعمر.
- تحولات الهوية الحضرية: ظهرت ازدواجية عمرانية: انقسمت المدينة إلى: مدينة حديثة (للإيطاليين) ببنى تحتية متطورة ومدينة تقليدية (للليبيين) تفتقر لأبسط الخدمات وطمس المعالم التراثية، اختفاء العديد من المعالم العمرانية التقليدية لصالح النمط الأوروبي. كما تغير نمط العيش من الحياة القائمة على الاقتصاد الزراعي التقليدي إلى اقتصاد استعماري موجّه للتصدير.
- تغيرات ثقافية وسلوكية: حيث تبني أنماط استهلاكية جديدة: نتيجة التعرض للبضائع الأوروبية. وساعد على ظهور أشكال جديدة من التمييز الاجتماعي بناءً على القرب من المستعمرين. بالإضافة الي تآكل الحرف التقليدية بسبب منافسة البضائع المستوردة.
- تأثيرات ديموغرافية: ادي الي هجرة داخلية تمثلت في تدفق سكان الريف إلى المدينة بحثاً عن العمل التغير التركيبة السكانية مع استيطان الإيطاليين في المناطق الأفضل.
ختاما خلقت هذه التحولات شرخاً عميقاً في الهوية الحضرية والاجتماعية لدرنة، حيث: تحولت من مدينة متماسكة ذات هوية واضحة إلى فضاء مجزأ بين حداثة استعمارية وتقليدية مهمشة. وأصبحت الهوية الاجتماعية للسكان هجينة، تتراوح بين مقاومة التغيير القسري وتبني بعض عناصر الحداثة الاستعمارية. كما ظهرت أنماط جديدة من الوعي الاجتماعي والسياسي مهدت لاحقاً لحركات المقاومة. وتعتبر هذه التحولات لم تكن مجرد تغيرات سطحية، بل شكلت صدمة حضارية أعادت تشكيل الوعي الجمعي لأهل درنة، وآثارها لا تزال واضحة في البنية الاجتماعية للمدينة حتى اليوم.
رابعا: الاضرار التي لحقت بالمعالم الإيطالية التي تعتبر ارث تاريخي بسبب كارثة الاعصار 2023:
في سبتمبر 2023، ضرب إعصار دانيال مدينة درنة الليبية، مُخلّفاً دماراً هائلاً أودى بحياة الآلاف وشرد عشرات الآلاف. ومن بين الضحايا كان الإرث المعماري التاريخي الإيطالي الذي يعود إلى فترة الاستعمار (1911-1943)، حيث تعرضت العديد من المباني التاريخية لأضرار جسيمة أو دُمّرت بالكامل. حيث شهدت المدينة انهيار مبانٍي حكومية قديمة ومنازل تراثية تعود لتلك الفترة. وقد غمرت مياه الفيضانات العاتية أحياء كاملة، مما أدى إلى تدمير أجزاء كبيرة من النسيج العمراني التاريخي للمدينة. تفاقمت الكارثة بسبب الإهمال السابق لهذه المباني وعدم وجود خطط صيانة أو حماية للتراث المعماري. ويُعتبر هذا الحدث خسارة فادحة للذاكرة التاريخية لمدينة درنة، حيث تمحورت هويتها العمرانية حول هذا المزيج الفريد من العمارة المحلية والإيطالية. اليوم، تواجه المدينة تحدياً مزدوجاً: إعادة إعمار البنية التحتية المدمرة، مع الحفاظ على ما تبقى من تراثها المعماري الذي يمثل شاهداً على حقبة مهمة من تاريخ ليبيا، انظر شكل (18، 19). 26
شكل (18) حدود المنطقة المتضررة وهي تعتبر منطقه معرضه بشكل مباشر.27
شكل (19) حدود المنطقة المتضررة وهي تعتبر منطقه معرضه بشكل مباشر.28
يوضح الجدول ادناه الاضرار التي تعرض له بعض المعالم الايطالية بمدينة درنة التي تمثل ارث تاريخي شاهد على فترة الاحتلال بالمدينة تمثلت في الاتي:
جدول (5) يوضح الاضرار التي لحقت بالمعالم الإيطالية بسبب كارثة الاعصار 2023
المكون |
الوصف |
حجم الدمار الكارثي: |
|
المعالم المتضررة: |
|
أسباب شدة التأثر: |
|
الخسائر غير المادية: |
|
ما تبقى من الإرث المعماري: |
|
تداعيات الكارثة: |
|
الاستنتاجات:
- التحولات العمرانية والمعمارية في درنة أثناء الاستعمار الإيطالي (1911-1943)
شكَّل الاستعمار الإيطالي لليبيا (1911–1943) مرحلةً حاسمةً في تاريخ البلاد، حيث أحدث تحولات جذرية في البنية العمرانية والاجتماعية والاقتصادية، خاصة في المدن الساحلية مثل درنة، التي شهدت تغييرات عميقة في نسيجها الحضري. جاءت هذه التحولات في إطار سياسة استعمارية هدفت إلى تعزيز الوجود الإيطالي، ليس فقط عسكرياً وسياسياً، بل أيضاً عبر إعادة تشكيل المدينة لتتناسب مع الرؤية الاستعمارية، مما ترك آثاراً متناقضة بين التحديث القسري وتهميش السكان المحليين. خلال هذه الفترة، ظهرت أحياء جديدة بتصاميم أوروبية، بينما أُهملت الأحياء العربية، مما خلق فصلاً عمرانياً يعكس التراتبية الاجتماعية التي فرضها المستعمر. كما شملت التغييرات تطوير البنية التحتية، مثل شق الطرق العصرية وبناء الجسور وتوصيل المياه، لكنها ركزت على خدمة المستوطنين الإيطاليين. في المقابل، تحول الاقتصاد المحلي ليكون تابعاً لمصالح الاستعمار، حيث هيمن الإيطاليون واليهود على النشاط التجاري، بينما تدهورت الزراعة التقليدية. لكن هذه التحولات لم تكن دائمة، فبعد جلاء المستعمر، ظلت بعض المعالم الإيطالية شواهد على تلك الحقبة، حتى جاء إعصار دانيال (2023) ليدمر جزءاً كبيراً من هذا الإرث المعماري، مما يطرح تساؤلات حول مصير الذاكرة الحضرية للمدينة وكيفية الحفاظ على ما تبقى منها. ومن خلال ما سبق تم استنتاج الاتي:
إنشاء أحياء جديدة: ظهور أحياء سكنية مخصصة للإيطاليين (مثل الحي الإيطالي الغربي) بطراز معماري أوروبي، مقابل أحياء محلية مهمشة. فالبنية التحتية تمثلت في شق طرق عصرية (مثل الشوارع العريضة المرصوفة) وبناء جسر حجري (1916) بالإضافة الي شبكة مياه صالحة للشرب وإنشاء ميناء حديث ونشاط تجاري مكثف. اما المباني الحكومية والعسكرية مثل دار البلدية، الثكنات العسكرية (مثل ثكنة ساباتيني) بالإضافة الي تحصينات عسكرية (السور المحيط بالمدينة بارتفاع 3 أمتار)، كما ان نمط العمارة هو مزج بين الطابع الإيطالي (الفلل ذات الأسقف الحمراء) والمواد المحلية (الحجر الجيري).
- تأثير التحولات العمرانية على الاقتصاد والهوية الحضرية والاجتماعية
- الاقتصاد: تحول درنة إلى مركز تجاري بحري، لكنه خُصص لخدمة المستعمرين (السيطرة الإيطالية واليهودية على التجارة)، مع تهميش الزراعة المحلية لصالح تصدير المحاصيل إلى إيطاليا.
- الهوية الحضرية: ازدواجية عمرانية: فصل صارخ بين أحياء الإيطاليين (حديثة) والأحياء العربية (عشوائية)، بالإضافة الي طمس المعالم التقليدية: هدم أجزاء من المدينة القديمة لشق الطرق.
- الهوية الاجتماعية: تفكك النسيج المجتمعي (تحول السكان إلى عمال بأجور زهيدة) مع ظهور طبقة عاملة حضرية فقيرة.
- مصير المعالم الإيطالية بعد الاستعمار وإعصار دانيال (2023)
- قبل الإعصار: بعض المعالم بقيت قائمة (مباني إيطالية سكنية، أجزاء من السور، دار البلدية). كما تحولت بعض المباني إلى مبانٍ حكومية أو سكنية.
- بعد إعصار دانيال: دمار واسع: انهيار الجسر التاريخي جزئيًا، تدمير معظم الفلل الإيطالية. واختفاء معالم: تضرر ثكنة ساباتيني والسور الحجري. كما ان ما تبقى: بعض الأساسات الحجرية، وثائق أرشيفية، وذكريات شفهية.
الخاتمة:
- الاستعمار الإيطالي أعاد تشكيل عمران درنة لخدمة أهدافه، مما خلق مدينة مجزأة اجتماعيًا وعمرانيًا.
- الكارثة الطبيعية (2023) محت معظم الشواهد المتبقية، مما يجعل التوثيق العاجل لهذه المعالم ضرورة تاريخية.
- التحولات خلقت هوية هجينة للمدينة، بين ماضٍ استعماري وواقع محلي مقاوم، انتهى بفقدان جزء كبير من الإرث المادي.
المقترحات:
هذه الكارثة الطبيعية لم تمحُ فقط مبانٍ تاريخية، وإنما مسحت جزءاً من الذاكرة الجمعية للمدينة، مما يستدعي:
- حملات توثيق عاجلة للمعالم الباقية
- دراسات تقييم دقيقة للأضرار
- مبادرات ترميم انتقائية للمواقع القابلة للإنقاذ
- إدراج المواقع المتبقية ضمن قوائم التراث المعرض للخطر
التوصيات:
يقترح الباحث إجراء دراسات مستقبلية تهدف إلى توثيق المباني الإيطالية المتضررة من كارثة الإعصار بشكل أكثر دقة وتفصيلاً، سواء تلك التي تعرضت للهدم الكلي أو الجزئي. يُبرز الباحث أهمية هذا التوثيق في الحفاظ على الإرث التاريخي لهذه المباني ومنع ضياعه، مما يساهم في حفظ الذاكرة المعمارية والثقافية للأجيال القادمة.
المراجع:
- عمورة، على ” ليبيا تطور المدن والتخطيط الحضري ” كتاب منشور في دار الملتقى للطباعة والنشر، بيروت، لبنان (1998)
- عمورة، على ،1998، مرجع سابق
- عمورة، على ،1998، مرجع سابق
- عمورة، على ،1998، مرجع سابق
- مجلة العربية “العمارة الإيطالية في طرابلس “، مجلة شهرية العدد 582 2025
- مجلة العربية، نفس المصدر السابق
- عمورة، على ،1998، ص 321، مرجع سابق
- الطرابلسي، مصطفى ” درنة الزاهرة ” كتاب من منشورات جامعة درنة (1999)
- الحاسي، ايمن واخرون، “الدور الفعال للكفاءات المحلية المتخصصة تجاه قضايا تدهور الساحات التقليدية بالمدينة التقليدية درنة بعد احداث 2011-2018″ بحث علمي منشور، العدد 9، المجلد الرابع، مجلة الاصالة، (2024)
- ساسي، ايمان ” مراحل تطور مدينة درنة والمشاكل المصاحبة لها ” كتاب منشور في مكتبة الفضيل، بنغازي، ليبيا (2013)
- الطرابلسي، مصطفى ،1998، مصدر سابق
- ساسي، ايمان، 2013، ص ص18، مرجع سابق
- الطرابلسي، مصطفى ،1998، مصدر سابق
- ساسي، ايمان، 2013، ص ص24، مرجع سابق
- ساسي، ايمان، 2013، ص ص24، مرجع سابق
- الطرابلسي، مصطفى ،1998، مصدر سابق
- ساسي، ايمان، 2013، ص ص42، مرجع سابق
- الطرابلسي، مصطفى ،1998، مصدر سابق
- ساسي، ايمان، 2013، مرجع سابق
- ساسي، ايمان، 2013، مرجع سابق
- الطرابلسي، مصطفى ،1998، مصدر سابق
- الطرابلسي، مصطفى ،1998، مصدر سابق
- الطرابلسي، مصطفى ،1998، مصدر سابق
- الطرابلسي، مصطفى ،1998، مصدر سابق
- ساسي، ايمان، 2013، مرجع سابق
- اغفير، واخرون.” إعصار دانيال والأضرار الكارثية على سد مدينة درنة والمنطقة العمرانية ““، منشورات مجلة الدولية للعلوم والتقنية (2023)
- اغفير، واخرون.” 2023، مرجع سابق
- اغفير، واخرون.” 2023، مرجع سابق