أثر البيداغوجيا النقدية على تطور التفكير النقدي في التعليم الجامعي وفق رؤية Paulo Freire
The Impact of Critical Pedagogy on the Development of Critical Thinking in Higher Education According to Paulo Freire's Perspective.
فاطمة سباع1
1 محاضرة بكلية الإلهيات، بجامعة الفرات التركيةـ تركيا,
بريد الكتروني: fsbaa@firat.edu.tr
ORCID: 0009-0005-7893-8677Türkiye 04 42025
DOI: https://doi.org/10.53796/hnsj65/9
المعرف العلمي العربي للأبحاث: https://arsri.org/10000/65/9
المجلد (6) العدد (5). الصفحات: 110 - 122
تاريخ الاستقبال: 2025-04-07 | تاريخ القبول: 2025-04-15 | تاريخ النشر: 2025-05-01
المستخلص: تتمحور الدراسة حول أثر البيداغوجيا النقدية على التفكير النقدي الجامعي وما بعده وفق رؤية باولو فريري. وتهدف إلى استكشاف تأثير البيداغوجيا النقدية على تطوير مهارات التفكير النقدي لدى الطلاب، ودراسة العلاقة بين التعليم التفاعلي وتحفيز التفكير النقدي. وتكمن أهميتها في الحاجة إلى تطوير التفكير النقدي لدى طلاب الجامعة، باعتباره أساسيا في مواجهتهم لتحديات الحياة المعاصرة. أما إشكاليتها فتتعلق بمدى تأثير البيداغوجيا النقدية على مهارات تفكيرهم النقدي ؟ وإلى أي حد يمكن أن تعزز من قدرتهم على التحليل والنقد البناء ؟ كما تعتمد الدراسة على المنهج الوصفي التحليلي، بتحليل ما جاء في مؤلفات فريري في هذا السياق. وتقتصر حدود البحث على طلاب الجامعات مع التركيز على مفاهيم فريري وتطبيقاتها في الجامعات. وللأجابة عن إشكالية هذا البحث، تم تناوله من خلال مبحثين، الأول: مفهوم البيداغوجيا النقدية ودور المعلم والطلاب فيها. الثاني: أثرها على تطوير التفكير النقدي لدى الطلاب. وخلصت الدراسة لمجموعة من النتائج والتوصيات، أهمها، أن التفكير النقدي يعد أداة أساسية لتطوير وعي الطلاب. وأن التعليم يجب أن يتجاوز نقل المعرفة الأكاديمية ليحفز الطلاب على التحليل النقدي. كما توصي بتعزيز التفكير النقدي في المناهج الجامعية، وتشجيع التفاعل المجتمعي بعد التخرج، وتعميق التعاون بين الجامعات والمجتمع المحلي.
الكلمات المفتاحية: البيداغوجيا النقدية، التفكير النقدي، باولو فريري، التعليم التفاعلي، النقد البناء.
Abstract: The study focuses on the impact of critical pedagogy on university-level critical thinking and beyond, according to Paulo Freire's perspective. It aims to explore the effect of critical pedagogy on the development of critical thinking skills among students and to study the relationship between interactive education and the stimulation of critical thinking. Its importance lies in the need to develop critical thinking among university students, as it is essential for them to face the challenges of contemporary life. The central issue of the study concerns the extent to which critical pedagogy influences their critical thinking skills and to what extent it can enhance their ability to analyse and critically evaluate. The study relies on a descriptive-analytical approach, analysing Freire's writings in this context. The research is limited to university students, focusing on Freire's concepts and their applications in universities. To address the research problem, the study is organized into two sections: the first discusses the concept of critical pedagogy and the roles of teachers and students within it, while the second examines its impact on the development of critical thinking among students. The study concluded with a set of findings and recommendations, the most important of which are that critical thinking is a crucial tool for developing students' awareness, that education should go beyond the transmission of academic knowledge to stimulate critical analysis, and that there should be an emphasis on enhancing critical thinking in university curricula, encouraging societal interaction after graduation, and deepening collaboration between universities and local communities.
Keywords: Critical pedagogy, critical thinking, Paulo Freire, interactive education constructive criticism.
المقدمة
يعد موضوع البيداغوجيا النقدية أحد المواضيع المركزية في حقل التربية والتعليم المعاصر، خاصة في ضوء التحديات التعليمية والاجتماعية التي يواجهها الطلاب في الجامعات. ومن بين المفكرين الذين أسهموا بشكل كبير في تطوير هذا المفهوم، يأتي باولو فريري Paulo Freire “(ريسيف، بيرنامبوكو، 19 سبتمبر 1921 – ساوباولو 2 مايو 1997) معلم برازيلي وصاحب نظريات ذات تأثير كبير في مجال التعليم.”[1] والذي قدم رؤية تربوية جديدة تُركز على التحرر الفكري وتعزيز التفكير النقدي لدى الطلاب من خلال منهج تعليمي تفاعلي ونقدي. تسعى هذه الدراسة إلى استكشاف أثر البيداغوجيا النقدية على تنمية مهارات التفكير النقدي لدى طلاب الجامعات وفقًا لرؤية باولو فريري. وتنبع أهمية هذه الدراسة من حاجة الجامعات الحالية إلى تطوير التفكير النقدي لدى الطلاب، وهو أمر أساسي في إعدادهم لمواجهة تحديات الحياة المعاصرة. كما تكمن أهمية هذا الموضوع في ضرورة فهم مفاهيم البيداغوجيا النقدية التي طورها فريري وتطبيقها في السياقات الجامعية، حيث تُعد أداة فعّالة لتحفيز الطلاب على التفاعل النقدي مع المفاهيم والمعرفة، وبالتالي تعزيز قدرتهم على التحليل واتخاذ المواقف الفاعلة في المجتمع. علاوة على ذلك، فإن هذه الدراسة تُسهم في تعزيز الوعي الاجتماعي والسياسي لدى الطلاب، وهو ما يُعد جزءًا أساسيًا من مهارات التفكير النقدي.
يهدف هذا البحث إلى تحليل مفهوم البيداغوجيا النقدية في رؤية باولو فريري. إضافة إلى استكشاف تأثير البيداغوجيا النقدية على تنمية مهارات التفكير النقدي لدى طلاب الجامعات. كما يهدف إلى دراسة العلاقة بين التعليم التفاعلي وتطوير التفكير النقدي في السياق الجامعي وفقًا للمنهج الذي اقترحه فريري. وكذا تحديد الآثار المحتملة للبيداغوجيا النقدية على الوعي الاجتماعي والسياسي للطلاب.
أما إشكالية هذه الدراسة فتتمحور حول مدى تأثير البيداغوجيا النقدية وفق رؤية باولو فريري على تطوير مهارات التفكير النقدي لدى طلاب الجامعات؟ وإلى أي حد يمكن لهذا النوع من التعليم أن يعزز من قدرة الطلاب على التحليل والنقد البناء للمعرفة والواقع الاجتماعي الذي يعيشون فيه؟ وهذه الإشكالية تجرنا لطرح عدة أسئلة منها: ما مفهوم البيداغوجيا النقدية؟ وما الدور الذي يلعبه كل من المعلم والطلاب في البيداغوجيا النقدية؟ وكيف تأثر البيداغوجيا النقدية على الوعي الاجتماعي والسياسي للطلاب؟ للإجابة عن هذه الإشكالية ستعتمد الدراسة على المنهج الوصفي التحليلي، حيث سيتم جمع البيانات حول البيداغوجيا النقدية من خلال الدراسات السابقة والنظريات التعليمية، ثم تحليل تأثير هذه البيداغوجيا على تطوير مهارات التفكير النقدي لدى طلاب الجامعات. كما سيتم الاستناد إلى النظريات التربوية لباولو فريري لفهم كيفية تطبيق هذه البيداغوجيا في الواقع الأكاديمي.
وفيما يتعلق بحدود هذا البحث، فإن الدراسة تقتصر على طلاب الجامعات في البيئة الجامعية، بحيث تستهدف التخصصات الإنسانية والاجتماعية التي قد تكون أكثر تفاعلًا مع أساليب التعليم النقدي. كما تقتصر الدراسة على النظر في نظريات فريري فقط فيما يتعلق بالبيداغوجيا النقدية وتطبيقاتها في الجامعات.
أما بخصوص الدراسات السابقة فقد تم الاطلاع على مجموعة من الدراسات التي تعالج موضوع التفكير النقدي في علاقته بالتعلم، منها: “البيداغوجيا النقدية وتهافت الأيديولوجيا الرأسمالية: استشكالات نقدية في سبيل إصلاح التعليم في المجتمعات الاستهلاكية” (لأحمد الحازمي، المجلة الأردنية في العلوم التربوية، المجلد 14، عدد 3، سنة 2018) والتي تركز على العلاقة بين البيداغوجيا النقدية والأيديولوجيا الرأسمالية في سياق المجتمعات الاستهلاكية؛ إذ يناقش الحازمي كيف أن التعليم في المجتمعات الاستهلاكية غالبًا ما يعزز الأيديولوجيا الرأسمالية، مما يؤدي إلى فقدان التفكير النقدي لدى الطلاب. ثم دراسة بعنوان: “أثر تنمية مهارات التفكير النقدي على رضا الأكاديمي المدرك والتحصيل الأكاديمي الفعلي للطلاب” (د. عبد العال رباب فهمي أحمد ، مجلة العلوم الاقتصادية والتجارة، العدد:2 جامعة عين شمس2020م) والتي تبحث في تأثير تنمية مهارات التفكير النقدي على رضا الطلاب الأكاديمي وأدائهم الأكاديمي الفعلي، وتوضح أن تحسين مهارات التفكير النقدي يساهم في تعزيز التحصيل الدراسي والرضا العام لدى الطلاب، كما تشير الدراسة إلى أهمية دمج استراتيجيات التفكير النقدي في المناهج التعليمية لزيادة فعالية التعليم. وهناك أيضا دراسة بعنوان “أثر التعلم المدمج في تنمية مهارات التفكير الناقد لدى طلبة الصف الثامن الأساسي في مادة التاريخ” (لفاطمة أكرم عثمان عثمان، رسالة الماجستير، جامعة الشرق الأوسط، كانون الثاني 2021م) والتي تناولت تأثير التعلم المدمج في تطوير مهارات التفكير النقدي لدى طلاب الصف الثامن في مادة التاريخ. وتُظهر النتائج أن استخدام تقنيات التعلم المدمج يساعد على تعزيز مهارات التفكير النقدي لدى الطلاب من خلال دمج التعليم التقليدي مع التقنيات الحديثة، كما تبين الدراسة أن الطلاب الذين تعلموا باستخدام هذه الطريقة أظهروا قدرة أكبر على التحليل النقدي والفهم العميق للموضوعات.
وما يميز البحث الذي بين أيدينا، التركيز على تقديم أبعاد فلسفية للتعليم الجامعي، حيث يدمج التفكير النقدي كأداة لتطوير الوعي الاجتماعي والسياسي لدى الطلاب، ويعتمد على رؤية باولو فريري في البيداغوجيا النقدية، مما يضيف عمقًا و بُعدًا اجتماعيًا وسياسيًا مقارنة بباقي الدراسات. كما وسع هذا البحث من نطاق البيداغوجيا النقدية ليشمل العلاقة بين التفكير النقدي والبيئة الجامعية والاجتماعية والسياسية، وهو ما يميز هذه الدراسة عن الدراسات التي تركز على الجوانب الاقتصادية أو الطرق التعليمية المحددة.
للإجابة عن الأسئلة التي تطرحها إشكالية هذه الدراسة ولتحقيق الأهداف المنشودة، سيقسم البحث إلى مبحثين، تتقدمهما مقدمة تشمل على أهمية البحث، أهدفه، إشكاليته، منهجه، حدوده، الدراسات السابقة وخطته. وتليهما خاتمة تشمل أهم النتائج والتوصيات وتفصيل خطته كالآتي:
المبحث الأول: مفهوم البيداغوجيا النقدية ودور المعلم والطلاب في البيداغوجيا النقدية
المبحث الثاني: أثر البيداغوجيا النقدية على تطوير التفكير النقدي لدى طلاب الجامعة
- مفهوم البيداغوجيا النقدية ودور المعلم والطلاب في البيداغوجيا النقدية
تعتبر البيداغوجيا النقدية نهجًا تربويًا يهدف إلى تطوير التفكير النقدي لدى الطلاب من خلال التفاعل المستمر بين المعلم والطلاب، حيث يصبح الطلاب مشاركين في عملية التعلم وليس فقط متلقين للمعلومات، لمعرفة المزيد عن هذا الموضوع سيتم تناول هذا المبحث من خلال مطلبين، الأول: مفهوم البيداغوجيا النقدية ومبادئها وفقا لرؤية باولو فريري(1.1)، الثاني: دور المعلم والطلاب في البيداغوجيا النقدية(2.1)
-
- مفهوم البيداغوجيا النقدية ومبادئها وفقا لرؤية باولو فريري
“البيداغوجيا تعريب للكلمة الفرنسية Pédagogie وقد ترجمت إلى العربية بمعنى نظرية التربية أحيانا وعلم التربية أحيانا أخرى ومن أجل تجاوز هذه الإزدواجية تجري العادة على استخدام اللفظة الأجنبية “بيداغوجيا” وهو المفهوم الذي يحاول دوركهايم تحديده وذلك بالقياس إلى مفهومي علم التربية Sciences de l’éducation، ومفهوم التربية education.”[2]
وعرف أحمد أوزي كلمة البيداغوجيا بأنها “إغريقية الأصل، وكانت تدل على العبد الذي يرافق الطفل في تنقلاته، وبخاصة من البيت إلى المدرسة. ولقد تطور استعمال الكلمة، وأصبح يدل على المربي (Pedagogue) والبيداغوجيا هي جملة الأنشطة التعليمية- التعلمية التي تتم ممارستها من قبل المعلمين والمتعلمين.”[3]
انطلاقا مما سبق، يمكن استنتاج أن البيداغوجيا هي مفهوم مركب ومتعدد الأبعاد، يعكس تطورًا في فهم التربية والتعليم. ثم إن تعريب الكلمة الفرنسية Pédagogie إلى العربية، مع تعدد المعاني مثل نظرية التربية أو علم التربية، يعكس التحديات المرتبطة بترجمة هذا المفهوم في السياقات الثقافية والتعليمية المختلفة. من أجل تجاوز هذا اللبس، أصبح من المعتاد الاحتفاظ باللفظ الفرنسي “بيداغوجيا” كمرادف شامل يشير إلى مجموعة الأنشطة والممارسات التي تهتم بتوجيه وتطوير العملية التعليمية. وعند النظر إلى تعريف دوركهايم الذي حاول تحديد البيداغوجيا بالقياس إلى مفهومي علم التربية و مفهوم التربية، يتضح أن البيداغوجيا لا تقتصر على الجانب النظري أو العلمي فقط، بل تمثل ممارسات عملية تتعلق بكيفية تدريس وتوجيه الطلاب داخل العملية التربوية. وعليه، ترتبط البيداغوجيا ارتباطًا وثيقًا بممارسات المعلمين والمتعلمين في بيئات تعليمية متنوعة. أما تعريف أحمد أوزي الذي يعود بالكلمة إلى أصل إغريقي، فيشير إلى تطور دلالتها من كونها تمثل “العبد الذي يرافق الطفل” إلى كونها تشير إلى المربي أو المعلم (Pedagogue) الذي يقود عملية التعلم. وبالتالي، فإن البيداغوجيا هي الأنشطة التعليمية والتعلمية التي يمارسها المعلمون والطلاب بهدف تسهيل وتوجيه اكتساب المعرفة والمهارات. وبالتالي يمكن القول بأن البيداغوجيا هي علم وفن موجه لتنظيم وتوجيه العملية التعليمية، فهي لا تقتصر على النظرية والتعلم الأكاديمي فقط، بل تشمل الممارسات اليومية التي تهدف إلى تطوير مهارات الطلاب من خلال تفاعل ديناميكي بين المعلمين والمتعلمين.
فالبيداغوجيا إذن هي فن وعلم التعليم أو التدريس، وهي تتعلق بطرق وأساليب التدريس التي يستخدمها المعلمون لتحقيق أهداف التعلم لدى الطلاب، كما أنها تشير إلى المنهجيات التي يُمكن من خلالها نقل المعرفة وتطوير مهارات الطلاب بطريقة تساعدهم على التفكير النقدي والإبداعي، وليس فقط حفظ المعلومات. وهناك عدة أنواع من البيداغوجيا، كالبيداغوجيا التقليدية، وهي التي تركز على الاستماع السلبي من الطلاب، حيث يُعتبر المعلم المصدر الرئيسي للمعرفة. ثم البيداغوجيا التفاعلية؛ حيث يتم تشجيع الطلاب على المشاركة الفعالة في عملية التعلم من خلال النقاشات و الأنشطة التفاعلية. والبيداغوجيا النقدية، وهي التي تعتمد على تحفيز الطلاب على التفكير النقدي والنقد البناء للمعرفة والمفاهيم المتوارثة، كما يروج لها باولو فريري.
قبل أن نقوم بتعريف البيداغوجيا النقدية بشكل أوضح، سوف نتوقف أولا عند تعريف الروح النقدية، والتي تعني القدرة على تحليل وتقييم الأفكار والآراء بشكل مستقل وموضوعي، كما تتعلق بالقدرة على التفكير بعمق وتحديث الافتراضات أو الآراء المسبقة بدلاً من قبولها على وجه اليقين. والشخص الذي يمتلك روحًا نقدية لا يتقبل المعلومات بشكل أعمى، بل يسعى لفهمها من خلال التفكير التحليلي، طرح الأسئلة، والتفكير في البدائل الممكنة. أي أن الروح النقدية تعني التحلي بالشك المنهجي والقدرة على التمييز بين ماهو منطقي وما هو غير منطقي، مع السعي لاكتشاف الحل الأفضل والأكثر دقة. هذه الروح تعد من العناصر الأساسية في عملية التعلم والتطور الفكري. وفي ذلك يقول باولو فريري:”ويقيم الانسان علاقاته مع العالم بطريقة نقدية. فهو يدرك المعطيات الموضوعية لواقعه ( كما أنه يدرك الروابط التي تربط المعطيات بعضها ببعض) وذلك من خلال الملاحظة والتفكير، وليس من خلال ردود الفعل كما تفعل الحيوانات. ويكتشف الانسان محدودية وجوده في الزمان من خلال ادراكه الحسي النقدي.”[4]
أما غوستاف لوبون Gustave Le Bon فقد قال:” ويجب لحسن إدراك معنى هذا الحادث التاريخي أو ذاك أن يوصل إلى إحياء ما يمكن أن يدعى (روح الزمن)، هذه الحساسية المتقلبة إلى الغاية والمؤثرة حينا ثم الدراسة المخلوعة حينا آخر.”[5] أي أنه لفهم معنى الحادث التاريخي بشكل صحيح، يجب أن نتمكن من إحياء روح الزمن، بمعنى أن نعيد فهم وتصور الظروف والظواهر النفسية والاجتماعية التي كانت سائدة في فترة وقوع ذلك الحادث؛ إذ يشير روح الزمن إلى الوعي الجماعي أو الحالة الذهنية للفرد. فالروح النقدية تدعونا إلى استحضار روح الزمن والظروف المحيطة بكل حادث تاريخي، لأنها تتيح لنا تفكيك هذه الأحداث وتحليلها بشكل عميق. أي أنه لا يكفي فقط معرفة الأحداث نفسها، بل يجب أن نفهم سياقها والدوافع التي شكلتها. وهذا يتطلب منا التفكير النقدي والتشكيك في المسلمات وإعادة تقييم ما كان يؤثر في تصرفات الأفراد والمجتمعات. كما قال باولو فريري:”إن لم يستطيع الناس إدراك موضوعات زمانهم بشكل نقدي، والتدخل الفاعل في واقعهم. فإن التيار يجرفهم في مساره. سوف يرون أن الزمان يتغير، ولكنهم مسحوقين؟ تحت هذا التغيير وبالتالي لا يستطيعون تمييز أهميته الكبيرة. ويتطلب مجتمع بادىء في التحول من حقبة تاريخية إلى أخرى، يتطلب تطوير روح مرنة ونقدية بشكل متميز.”[6]
انطلاقا مما سبق يمكن القول بأن الروح النقدية هي القدرة على تحليل وتقييم الأفكار والآراء بموضوعية واستقلالية، مما يسمح للأفراد بالتفكير بعمق والتشكيك في الافتراضات المسبقة بدلاً من قبولها دون تساؤل. تعتبر هذه الروح أساسية في التعلم والتطور الفكري، حيث تشجع على فحص المعلومات بشكل عقلاني من خلال طرح الأسئلة والتفكير في البدائل. كما يؤكد ذلك فريري.
من خلال رؤية باولو فريري، نستشف أن البيداغوجيا النقدية تتطلب من الطلاب إقامة علاقات نقدية مع العالم، حيث يفهمون المعطيات الموضوعية لواقعهم ويدركون الروابط بين هذه المعطيات من خلال الملاحظة والتفكير. وهذا يتطلب التدخل الفاعل في واقعهم وتطوير روح مرنة ونقدية تمكنهم من تحليل تطورات الزمن وفهم تأثير السياقات الاجتماعية والتاريخية على الأحداث. وبالتالي، فإن البيداغوجيا النقدية تعتبر أداة أساسية لتطوير التفكير النقدي لدى الطلاب، مما يتيح لهم إعادة تقييم الواقع وتحدي المفاهيم المسبقة، وبالتالي المساهمة الفعالة في بناء مجتمع نقدي قادر على التغيير والتطور. فالبيداغوجيا النقدية تميزت عن الأنواع الأخرى بتركيزها على التفكير النقدي الذي يعزز القدرة على التمييز بين المنطقي وغير المنطقي، ويشجع الطلاب على السعي لاكتشاف حلول أفضل وأدق للمشكلات المطروحة.
وضع باولو فريري، من خلال رؤيته للبيداغوجيا النقدية، مجموعة من المبادئ التي تهدف إلى تطوير التفكير النقدي والمشاركة الفاعلة للطلاب في العملية التعليمية، حيث أكد على أهمية التفاعل المتبادل باعتباره وسيلة لبناء الفهم المشترك وتعميق التفكير النقدي، وفي هذا الصدد قال فريري:”من أجل ميلاد مجتمع جديد يجب أن تكون مساهمة المربي، في تربية ذات توجه نقدي، قادر على المساعدة في تشكيل اتجاهات نقدية لدى الدارسين، وذلك لأن الوعي الساذج الذي كان عليه الناس أثناء مسارهم التاريخي قد تركهم ضحية سهلة للاعقلانية.”[7] أي أن الوعي النقدي (Conscientization) يعتبر من المفاهيم الأساسية في فكر فريري، ويعني قدرة الطلاب على فهم الواقع الاجتماعي والاقتصادي والسياسي من حولهم وتحليله بطريقة نقدية. ويهدف فريري إلى تطوير الوعي النقدي لدى المتعلمين، مما يتيح لهم إدراك العلاقات الظالمة أو القيود الاجتماعية السائدة في المجتمع، وبالتالي التمكن من تغيير الواقع. كما يعتقد فريري أن التعليم يجب أن يكون مرتبًا بالسياق الاجتماعي والتاريخي الذي يعيش فيه الطلاب. وبالتالي، يجب أن يتفاعل التعلم مع واقعهم، ما يساعدهم على فهم الأحداث في سياقاتها التاريخية والاجتماعية. وعلى المعلم أن يُشرك الطلاب في تحليل الظروف التي شكلت تاريخهم وتفكيرهم.
بالنسبة لفريري، لا يتعلق التعليم فقط بنقل المعرفة، بل هو أداة للتغيير الاجتماعي؛ فالتعليم يجب أن يساهم في تحرير الأفراد من القيود الاجتماعية والاقتصادية والسياسية، ليصبحوا قادرين على التأثير في مجتمعهم بشكل إيجابي. بمعنى آخر، يُعد التعليم وسيلة لتطوير القدرة على التفاعل مع العالم بطريقة نقدية والتدخل الفاعل في الواقع. يقول فريري في هذا الإتجاه:” اثناء مرحلة التحول، تزداد الحاجة لخلق عملية تربوية تشجع المواقف النقدية، وذلك للحد من المواقف اللاعقلانية.”[8]
أما قوله:” وعندما يصل الناس إلى حالة الوعي يكتشفون كيف تعاملهم الصفوة باحتقار. وكرد فعل، يميلون إلى الاستجابة العدائية كلما كان ذلك ممكنا. وبالمقابل، تحاول الصفوة، الخائفة من تهديد شرعية الناس، تحاول اسكات الجامهير وتدجينها غما بالقوة أو من خلال الوصاية عليها. يحاولون اعاقة بروز الجماهير. وتزيد هذه الظروف من خطورة الجو اللاعقلاني السائد.”[9] فيشير إلى عدة مبادئ أساسية للبيداغوجيا كمبدأ الوعي النقدي، الذي يعتبر شرطا أساسيا لفهم الواقع الاجتماعي. وكذلك مبدأ التمكين الفاعل للتغيير الاجتماعي من خلال الوعي والنقد. إضافة إلى مبدأ التحليل العميق للواقع الاجتماعي وتفكيك الهياكل القمعية. ثم مبدأ التمكين الجماعي وإتاحة الفرصة للجماهير لفرض تأثيرهم في المجتمع. كما يشير إلى مبدأ مقاومة اللاعقلانية وتطوير بيئة عقلانية تشجع على التفكير النقدي المستمر.
انطلاقا مما سبق يمكن أن نستنتج أن البيداغوجيا النقدية وفقًا لفريري تتجاوز مجرد نقل المعرفة، إلى تعليم الأفراد كيف يتحدون القوى القمعية التي تحاول إعاقة قدرتهم على التفكير النقدي و التغيير الفاعل في الواقع الاجتماعي. وذلك من خلال تحفيز الطلاب على أن يصبحوا مفكرين نقديين قادرين على التحليل والتقييم، مع القدرة على تغيير واقعهم من خلال فهم سياقهم الاجتماعي والتاريخي والمشاركة الفاعلة في المجتمع.
2.1 دور المعلم والطلاب في البيداغوجيا النقدية
في البيداغوجيا النقدية وفقًا لرؤية باولو فريري، يلعب كل من المعلم و الطلاب أدوارًا حيوية ومتكاملة. فقد حدد دور المعلم في اعتباره موجها فاعلا؛ إذ لا يُعتبر المعلم مجرد مصدر للمعرفة أو ناقل للمعلومات فقط، بل هو موجه و مُحفز للتفكير النقدي لدى الطلاب. ويسعى المعلم إلى تحفيز الطلاب على التفكير النقدي والتحليل العميق للواقع من خلال طرح الأسئلة ودعوتهم للتشكيك في المسلمات.حيث يقول :”من أجل ميلاد مجتمع جديد يجب أن تكون مساهمة المربي، في تربية ذات توجه نقدي، قادر على المساعدة في تشكيل اتجاهات نقدية لدى الدارسين.”[10]
كما أشار فريري إلى أن المعلم ينبغي أن لا يتعامل مع الطلاب على أنهم مستقبلون للمعرفة فقط، بل هو شريك في عملية التعلم. ويقوم بالتفاعل مع الطلاب بطرق تحفز التفاعل المتبادل والتعلم الجماعي، ما يخلق بيئة تعليمية نشطة ونقدية. حيث قال:”كنا بحاجة إلى تعليم يكرس موقف (أتساءل) بدل من مجرد موقف(أوافق).[11] فالمعلم هو من يقوم بتنمية الوعي النقدي لدى الطلاب حول الواقع الاجتماعي والسياسي، حيث يدعوهم لفهم وتفسير الظروف التاريخية والاجتماعية التي تحيط بهم، ما يساهم في إحداث تغيير اجتماعي.
علاوة على ما تم ذكره فإن فريري ينتقد المنهج التقليدي ويدعو إلى التخلي عن الدور التقليدي في البيداغوجيا النقدية، انطلاقا من تجنب المعلم أن يكون سلطويًا في تدريس المعلومات بشكل جاف بعيد عن الحياة. بل يجب أن يسعى لإعطاء الطلاب حرية التفكير وتوجيههم نحو المشاركة الفعالة في عملية التعلم. وذلك من خلال قوله:”ولأن منهجنا التقليدي مفصول عن الحياة، متمركز حول مفردات معزولة عن الواقع المفترض فيها ان تمثله، ولا يحتوي على نشاط مادي عيني، لم يستطع أبدا تطوير وعي نقدي.”[12]
ومن جهة أخرى فإن فريري يدعو إلى الإيمان بدور الطلاب باعتبارهم مفكرين نقديين؛ إذ إن الطلاب في هذا النموذج التعليمي ليسوا مجرد مستمعين للمعلومات، بل هم مفكرون نقديون، ويجب تشجيعهم على تحليل و نقد الأفكار والمفاهيم التقليدية، والتشكيك في المسلمات التي يتم تقديمها لهم في إطار التعليم الديموقراطي. والهدف هو أن يصبحوا قادرين على تفسير الواقع وفهمه بعمق، والقدرة على التمييز بين المنطقي وغير المنطقي. حيث قال:”وقد كنت معنيا باستغلال ذلك الجو في محاولة تخليص نظامنا التربوي من كلماته الجوفاء، من عدم ايمانه بالطالب وقدره هذا على النقاش والعمل والابداع الطالب. ان أساس الديمقراطية والتعليم الديمقراطي هو الايمان بالناس.”[13] كما ينبغي أن يشارك الطلاب بنشاط في عملية التعلم بدلا من كونهم مجرد متلقين سلبيين للمعرفة. والنظر إلى الطلاب كأشخاص لديهم قدرة على بناء المعرفة وتشجيعهم على استخدام تفكيرهم النقدي لتوليد أفكارهم الخاصة وفهم الواقع من منظور مغاير.
انطلاقا مما سبق يمكن القول بأن علاقة المعلم بالطلاب في البيداغوجيا النقدية وفقًا لرؤية باولو فريري تتميز بأنها علاقة تفاعلية، شراكية، ونقدية. حيث يعمل المعلم على تحفيز التفكير النقدي لدى الطلاب، ويشجعهم على المشاركة الفعالة في العملية التعليمية. المعلم لا يتعامل مع الطلاب كمستقبلين للمعرفة فقط، بل شركاء في بناء المعرفة. وبالمقابل، يُشجَّع الطلاب على أن يكونوا مفكرين نقديين قادرين على التحليل والنقد للأفكار والمفاهيم التي يتم تقديمها لهم، ما يساهم في تطوير وعيهم الاجتماعي والسياسي.
- أثر البيداغوجيا النقدية على تطوير التفكير النقدي لدى طلاب الجامعة وما بعدها
تسهم البيداغوجيا النقدية بشكل كبير في تطوير التفكير النقدي لدى طلاب الجامعة من خلال تحفيزهم على المشاركة الفعالة في عملية التعلم، وتعميق الوعي الاجتماعي والسياسي. ولمعرفة المزيد عن هذا الموضوع سيتم تناول هذا المبحث من خلال مطلبين، الأول: تحفيز التفكير النقدي من خلال المشاركة الفعالة (1.2) الثاني: تمكين الطلاب من النقد والتحليل الاجتماعي والسياسي (2.2)
1.2 تحفيز التفكير النقدي من خلال المشاركة الفعالة
يعتقد باولو فريري أنه يجب تحفيز التفكير النقدي لدى طلاب الجامعات وما بعد الجامعة وأطلق عليهم صفة المثقفين، وحتهم على ضرورة المشاركة الفعالة في التعليم، وذلك من خلال عدة جوانب، منها: تشجيع التفكير النقدي المستقل؛ إذ يُبرز فريري كيف أن المثقفين البرازيليين كانوا يعيشون في عالم خيالي لا يعكس واقعهم الخاص. ويظهر من خلال قوله “وقد عاش المثقف البرازيلي في عالم خيالي لم يقدر على تغييره. وكان هذا سببا في معاناته لأنه، وقد أدار ظهره مشمئزا من عالمه الخاص وجد أن بلاده ليست أمريكا أو أوروبا. ولأنه تبنى وجهة النظر الأوروبية في كون بلاده متخلفة، نعنى بلاده من ذهنه. وبقدر ما أراد أن يكون مثقفا بقدر مالم يرد أن يكون برازيليا “[14] أي أن المثقفين كانوا يقيمون أنفسهم من خلال معايير خارجية، مما يعكس غياب التفكير النقدي حول واقعهم الثقافي. وفي هذا السياق، يظهر كيف أن التفكير النقدي يتطلب الانخراط العميق مع الواقع المحلي وعدم قبول النظرة الخارجية.
كما يدعو فريري إلى المشاركة الفعالة في الفعل الثقافي والتحليلي؛ فالمعهد الذي يشير إليه في حديثه كان مكانًا يعكس الاندماج مع الواقع المحلي ويشجع على التقييم الذاتي. حيث يقول: “لقد وجدت قوة أفكار المعهد جذورها في هذا الاندماج مع الواقع القومي الحديث الاكتشاف والحديث التقييم .”[15]، ما يدل على أن المعهد كان يعزز الانخراط الفعّال مع القضايا المحلية ويشجع على التحليل النقدي للواقع من منظور مختلف. وهذه المشاركة الفعالة في الفهم والتقييم من خلال التحليل الاجتماعي والثقافي كانت أساسًا في تحفيز التفكير النقدي لدى الطلاب والمثقفين المشاركين.
كما يشير فريري إلى التفاعل مع الجمهور خارج الإطار الأكاديمي، انطلاقا من قوله” أن المعهد تحدث إلى جيل كامل من الجامعة وأن ذلك الجيل قد سمعه، مع أن المعهد لم يكن بالجامعة. ومع أنه لم يكن منظمة عمالية إلا أنه قدم مؤتمراته في النقابات المهنية.”[16]وهذا يظهر كيف أن المعهد لم يقتصر على التعليم النظري بل كان يُحفّز الطلاب والمثقفين على التفاعل مع مجتمعاتهم والمشاركة الفعّالة في النقاشات الثقافية والاجتماعية. وهذه المشاركة الفعّالة مع المجتمع الخارجي كانت وسيلة لتحفيز التفكير النقدي وزيادة الوعي الجماعي.
يؤمن فريري بأهمية التساؤلات لتحفيز التفكير النقدي، إذ يعتبر أن التعليم الذي يعتمد على طرح التساؤلات هو الذي يثير ويدعم حب الاستطلاع لدى الطلاب، وهذا هو الأساس لتنمية التفكير النقدي؛ فمن خلال طرح الأسئلة، يُحفز الطلاب على التفكير النقدي بأن يكونوا نشطين في التعلم وليسوا مجرد مستقبلين للمعلومات بشكل سلبي. لقوله:”إن التعليم الذي يقوم على طرح التساؤلات هو الذي يثير، ويحفز أو يدعم حب الاستطلاع.”[17] فهذه العبارة توضح كيف أن طرح الأسئلة يُعتبر محركًا رئيسيًا لتنمية التفكير النقدي، حيث يدفع الطلاب للتفاعل مع الأفكار بشكل نقدي ومعمق. ومن جانب آخر فإن فريري ينتقد النظام التعليمي الذي يقدم الإجابات الجاهزة دون أن يرتبط السؤال بها بشكل ديناميكي. هذا النوع من التعليم يركز على الاستظهار الآلي للمعلومات، ويمنع الطلاب من التفاعل النشط مع المحتوى، مما يحد من قدرتهم على التفكير النقدي. لقوله:”إن التربية التي تقدم الإجابات دائما، عملية عقيمة لا تؤدي إلى تنمية حب الاستطلاع”[18] ويشير هنا إلى أن التعليم الذي يُعطي الإجابات الجاهزة لا يساعد في تنمية التفكير النقدي، بل يعيق حب الاستطلاع، الذي هو أساس التعلم النقدي.
ويرى فريري أن الإجابة يجب أن تكون جزءًا من السؤال، مما يعزز من قدرة الطلاب على التفكير النقدي عبر ربط الأفكار ببعضها البعض. إذا لم يكن هناك ربط بين السؤال والإجابة، فإن الطالب يظل في حالة قبول سطحي للمعلومة دون فحصها أو تحليلها. وهو ما لمح له من خلال قوله:”التعليم الذي يقدم الإجابات يقع في خطأ كبير، إذا لم يتم إدراك الإجابة كجزء من السؤال”.[19] فهذه العبارة توضح أهمية التفاعل بين السؤال والإجابة في عملية التعلم. إذا تم تقديم الإجابة دون ربطها بالسؤال، فإن الطلاب لا يشاركون في التفكير النقدي بشكل فعال. كما يعتقد فريري أن الطريق إلى تكوين حب الاستطلاع هو طرح التساؤلات والإجابة عنها. وهذا يعكس الطريقة التفاعلية التي يجب أن يتبعها التعليم لتنمية التفكير النقدي لدى الطلاب، حيث يتم التفكير معًا في أسئلة وأجوبة بشكل مستمر، مما يعزز التفاعل بين الطلاب والمحتوى.
انطلاقا مما سبق يمكن أن نستنتج أن فريري يؤكد على أهمية تحفيز التفكير النقدي لدى طلاب الجامعات والمثقفين من خلال المشاركة الفعالة في التعليم. ويشجع على تعزيز التفكير النقدي المستقل وعدم قبول الأفكار الجاهزة أو النظر إلى الواقع من منظور خارجي. كما يوضح كيف أن المثقفين البرازيليين تبنوا وجهة نظر أوروبية في تقييم واقعهم، مما يعكس غياب التفكير النقدي حول ثقافتهم المحلية. ودعوته إلى الانخراط الفعّال مع الواقع المحلي، كما يظهر في المعهد الذي يعكس اندماج الأفكار مع الواقع القومي، ويشجع على التحليل النقدي للواقع الاجتماعي والثقافي. كما يبرز أيضًا أهمية التفاعل مع الجمهور خارج الإطار الأكاديمي، مما يعزز الوعي الجماعي ويسهم في تنمية التفكير النقدي. بالإضافة إلى اعتقاده بأن طرح التساؤلات هو الأساس لتحفيز حب الاستطلاع، وبالتالي تطوير التفكير النقدي. وهو ما يعزز التفاعل بين الطلاب والمحتوى. وبالتالي، يعتبر فريري أن الطريق إلى التفكير النقدي هو من خلال التفاعل المستمر بين الأسئلة والإجابات.
-
- تمكين الطلاب من النقد والتحليل الاجتماعي والسياسي
يوضح فريري أن المثقفين البرازيليين كانوا يقيمون أنفسهم بناء على معايير خارجية (أوروبية أو أمريكا شمالية)، مما جعلهم ينظرون إلى بلادهم على أنها (عنصر أجنبي). وهذه النظرة تعكس غياب التحليل النقدي للمجتمع المحلي، وهو ما يعكس ضرورة تمكين الطلاب من التفكير النقدي حول واقعهم الاجتماعي والسياسي بدلاً من الاعتماد على وجهات نظر خارجية، ويظهر ذلك من خلال قوله: “وقد أدار ظهره مشمئزا من عالمه الخاص وجد أن بلاده ليست امريكا أو أوروبا. ولأنه تبنى وجهة النظر الأوروبية في كون بلاده متخلفة، نعنى بلاده من ذهنه. وبقدر ما أراد أن يكون مثقفا بقدر مالم يرد أن يكون برازيليا.”[20] هذا يدل على أهمية تعزيز القدرة على تحليل الواقع المحلي بعيدًا عن التصورات المستوردة من الخارج.كما أن الاندماج مع الواقع الوطني يمكن الطلاب من النقد. وأما قوله عن والمعهد الذي تم تأسيسه “عكس جو عدم الغربة المميز لمرحلة التحول، شكل نفيا لهذا النفي وذلك باعتباره البرازيل واقعه الخاص، باعتباره إياها مشروعا. إذ ان تفكر في البرازيل على أنها موضوع كان يعني أن ترى نفسك مع البرازيل كما كان واقعها الحقيقي.”[21] وهذا يشير إلى تمكين الطلاب من التفاعل النقدي مع الواقع الثقافي والاجتماعي المحلي وعدم الخضوع للأفكار المستوردة التي قد تعوق فهمهم الفعلي لواقعهم. كما يبرز هذا أهمية الانخراط الفعّال في فهم الواقع المحلي. ويرى فريري من خلال قوله:”لقد وجدت قوة أفكار المعهد جذورها في هذا الاندماج مع الواقع القومي الحديث الاكتشاف والحديث التقييم.”[22] أن المعهد كان يدعم التحليل النقدي للواقع الوطني ويساهم في تكوين مفكرين قادرين على تقييم المجتمع من خلال منظور نقدي، ويعمل على تمكين الطلاب من التحليل النقدي للمجتمع والسياسة، من خلال تشجيعهم على مراجعة الواقع الاجتماعي والسياسي بناءً على معايير داخلية، وليس بمعايير خارجية.
يقول فريري:”يكفي أن تكون إنسانا حتى تدرك معطيات الواقع، حتى تكون قادرا على المعرفة، حتى لو كانت تلك المعرفة مجرد وجهة نظر. ليس هناك جهل مطلق أو حكمة مطلقة. ولكن الناس لا تدرك تلك المعطيات باشكالها البحثة. إذ عندما يستوعبون ظاهرة أو مشكلة، فهم يستوعبون أيضا روابطها السببية. وكلما استوعب الناس السببية الحقيقية بدقة، فإن فهمهم للواقع يكون أكثر نقديا. وبقدر ما يعجزون عن استيعاب السببية بقدر مايكون فهمهم غير واقعي[…]يتفاعل الوعي النقدي مع الواقع، ويفرض الوعي الساذج نفسه على الواقع. أما الوعي المتعصب، الذي تقوده سذاجته المرضية إلى اللاعقلانية، فإنه يكيف نفسه مع الواقع.”[23] نستنتج من قول باولو فريري، مجموعة من النقاط التي تدل على تمكين الطلاب من النقد والتحليل الاجتماعي والسياسي، والمتمثلة في الوعي النقدي وفهم الواقع؛ إذ يوضح أن (يكفي أن تكون إنسانا حتى تدرك معطيات الواقع)، مما يعني أن لدى الإنسان القدرة الطبيعية على تحليل الواقع وفهمه. ولكن هذا الفهم يعتمد على قدرة الأفراد على فهم العلاقات السببية التي تربط بين الظواهر والمشاكل. فكلما كان الإنسان قادرا على استيعاب السببية الحقيقية، كان فهمه للواقع أكثر نقديا. وهذه الفكرة تشير إلى أهمية تطوير التفكير النقدي لدى الطلاب من خلال تمكينهم من فهم العوامل الاجتماعية والسياسية المؤثرة في الواقع. بالإضافة إلى التفاعل مع الواقع بشكل نقدي؛ بحيث يميز فريري يميز (الوعي النقدي) و(الوعي الساذج)، حيث يؤكد أن الوعي النقدي يتفاعل مع الواقع بطريقة تفكيكية وتحليلية، بينما الوعي الساذج يتجاهل هذه العلاقات السببية. ويشير إلى أن التفاعل مع الواقع يحتاج إلى التفكير النقدي الذي يسمح للأفراد بتركيب روابط بين الظواهر والأسباب الحقيقية وراءها، وهو ما يساهم في تحفيز التحليل الاجتماعي والسياسي. ويرى أن (الوعي المتعصب) يعجز عن فهم الواقع بشكل نقدي بسبب سذاجته المرضية، حيث يقوم بتكييف نفسه مع الواقع دون تحليل حقيقي له. وهذه الفكرة تدل على أهمية تمكين الطلاب من التحرر من التفكير المتعصب والتحليلي السطحي، من خلال تعليمهم كيفية فحص الواقع بشكل نقدي.
أما قوله:” الطريقة التربوية الفعالة تساعد الشخص في أن يكون واعيا لبيئته ولظروفه، باعتباره انسان وباعتباره شخص فاعل، فإن هذه التربية تصبح أداة للاختبار بالنسبة له، عنذئد، يصبح هذا الشخص مسيسا. وعندما أعلن أُمِيٌّ سابق لدى حديثه أمام الرئيس خواجو لارت وطاقم الرئاسة أنه لم يعد جزءا من القطيع، بل أصبح واحدا من الناس، فقد فعل أكثر من أنه نطق بمجرد عبارة. لقد اختار عن وعي. لقد اختار مشاركة نابعة عن قرار.”[24] فيمكن أن نستخراج منه عدة عناصر تدل على تمكين الطلاب من النقد والتحليل الاجتماعي والسياسي، منها: الوعي بالبيئة والظروف؛ إذ يشير إلى أن الطريقة التربوية الفعالة تساعد الشخص في أن يكون واعيا لبيئته وظروفه، وهذا يعني أن التربية الفعالة لا تقتصر على تعليم المعلومات، بل تهدف إلى تمكين الأفراد من فهم وتحليل الواقع الاجتماعي والسياسي من حولهم. وهذا الوعي بالبيئة المحيطة هو نقطة انطلاق لفهم علاقات القوة والظروف التي تشكل الواقع الاجتماعي والسياسي. كما يؤمن بأن التربية النقدية تمكن الأفراد من التفاعل بشكل هادف وواعي مع الواقع السياسي والاجتماعي. ومن خلال هذه التربية، يصبح الفرد فاعلاً في المجتمع، قادرًا على ممارسة التحليل النقدي للظروف التي يعيش فيها والتفاعل معها بطرق فاعلة. كما يرى أن الشخص الذي اختار أن يكون (واحدًا من الناس) لم يكن مجرد قول، بل كان قرارًا واعيًا. وهذه الفكرة تعكس أن التمكين الاجتماعي والسياسي يتحقق عندما يتمكن الأفراد من اتخاذ قرارات مدروسة ومبنية على فحص نقدي للواقع، وبالتالي يصبحون قادرين على التحليل الاجتماعي والسياسي بشكل نقدي وواعٍ.
ثم قال:”أن التربية، وتربية الانسان لنفسه، بهدف التحرر، هي مهمة أولئك الذين يعرفون أنهم لا يعرفون ألا القليل( ولهذا السبب نفسه هم يعرفون أنهم يعرفون شيئا وبالتالي يستطيعون النجاح في زيادة معارفهم) وذلك خلال حوارهم مع أولئك الذين يظنون، في معظم الوقت، أنهم لا يعرفون شيئا. ويتركز هدف هؤلاء في تمكين أولئك الذين يظنون أنهم لا يعرفون من زيادة معارفهم وذلك عن طريق ابراز المعارف التي يمتلكونها أمام أعينهم، وبالتالي تغيير رأيهم في أنهم لايعرفون.”[25]يرى فريري أن التربية تعتبرأداة للتحرر، والتحرر هنا لا يعني فقط التحرر الشخصي، بل التحرر الاجتماعي والسياسي أيضًا، كما يعبر عن أهمية الحوار بين الأفراد الذين لديهم معرفة جزئية أو محدودة مع أولئك الذين قد يظنون أنهم لا يعرفون شيئًا. وهذا التفاعل والحوار يعزز النقد والتحليل الاجتماعي، حيث يتم تشجيع الأفراد على مشاركة أفكارهم وتجربة الأفكار الجديدة والمختلفة، مما يؤدي إلى توسيع أفقهم وتطوير رؤاهم الاجتماعية والسياسية، مع تمكين الآخرين من زيادة معارفهم.
كخلاصة لهذا المطلب يمكن القول أن فريري يؤكد على أهمية تمكين الطلاب من النقد والتحليل الاجتماعي والسياسي من خلال تعزيز الوعي النقدي وفهم الواقع المحلي بعيدًا عن التصورات المستوردة. ويرى أن التربية يجب أن تركز على تحفيز الطلاب للتفاعل النقدي مع مجتمعهم، وتفكيك العلاقات السببية بين الظواهر الاجتماعية والسياسية. كما يشير إلى أن الحوار مع الآخرين يساعد في توسيع آفاق الطلاب ويعزز قدرتهم على اتخاذ قرارات واعية ومستقلة، مما يمكنهم من فهم واقعهم بشكل أعمق والمساهمة في تغييره.
الخاتمة
في الختام وبناءً على ما تم عرضه فقد خلصت هذه الدراسة إلى مجموعة من النتائج والتوصيات، من بين أهم النتائج، أن الدراسة قد أظهرت أن التفكير النقدي يمثل أداة أساسية لطلاب الجامعات لتحليل وتقييم الأفكار والنظريات بشكل موضوعي، مما يساعدهم في تطوير وعي نقدي حول واقعهم الاجتماعي والسياسي. كما أظهرت النتائج أن التعليم يجب أن يتجاوز نقل المعرفة الأكاديمية التقليدية، ليشمل تحفيز الطلاب على التفكير النقدي حول قضاياهم الاجتماعية والسياسية. وبالتالي، تصبح الجامعات بيئة خصبة لتطوير الوعي الجماعي والتحليل السياسي.
ومن أهم النتائج أيضا أن التفاعل مع المجتمع بعد التخرج من خلال المشاركة في الحياة العامة والأنشطة الاجتماعية والسياسية يساهم في تعزيز قدرتهم على التفكير النقدي واتخاذ قرارات هادفة. إضافة إلى أن التعليم الذي يركز على التحليل النقدي يُعد خريجين قادرين على التقييم الذاتي والنقدي للأفكار والنظريات الاجتماعية والسياسية. وهؤلاء الخريجون يصبحون قادرين على التفاعل بشكل هادف مع قضايا مجتمعاتهم ويعملون على تحسينها.
أما أهم التوصيات التي خلصت لها الدراسة، فتتمثل في ضرورة تعزيز التفكير النقدي في الجامعات، عن طريق تطوير برامج تعليمية جامعية تشجع الطلاب على التفكير النقدي والتساؤل المستمر. كما ينبغي على المناهج الجامعية أن تشمل تقنيات وأساليب تعلم تحفز الطلاب على تحليل الأفكار والنظريات بشكل نقدي وعدم تقبلها بشكل أعمى.
كما توصي الدراسة الجامعات على تمكين الطلاب من فهم الواقع المحلي وتحليله، مع تشجيعهم على الربط بين المعارف الأكاديمية والظروف الاجتماعية والسياسية التي يواجهها المجتمع. من خلال ذلك، يمكن للطلاب تطوير وعي اجتماعي وسياسي يمكنهم من الإسهام في تحسين واقعهم. وتوسيع دائرة التفاعلهم بعد التخرج؛ إذ من المهم أن تُعزز الجامعات برامج توجيهية لخريجيها لمساعدتهم في التفاعل مع القضايا المجتمعية والسياسية بعد التخرج. كما يمكن للجامعات أن تساهم في تزويد الخريجين بالأدوات اللازمة للمشاركة الفعّالة في الحياة العامة من خلال إقامة ورش عمل ومؤتمرات تجمع بين الأكاديميين والممارسين الاجتماعيين والسياسيين.
علاوة على ذلك، ينبغي أن تستهدف برامج الدراسات العليا تحفيز البحث النقدي العميق وتعليم الطلاب كيفية التفاعل بشكل نقدي مع الظواهر الاجتماعية والسياسية المعقدة. من خلال تعزيز هذا التوجه في الدراسات العليا، يمكن إعداد جيل من الباحثين والمفكرين القادرين على التغيير المجتمعي الفعّال. إضافة إلى تعزيز الشراكة والتعاون بين الجامعات والمجتمع المحلي: يُوصى بتعزيز التعاون بين الجامعات والمجتمعات المحلية لضمان أن الطلاب والخريجين قادرين على تطبيق المعارف المكتسبة في معالجة القضايا الاجتماعية والسياسية الحقيقية. من خلال هذا التعاون، يمكن للجامعات أن تلعب دورًا أساسيًا في تطوير التفكير النقدي وزيادة الوعي الاجتماعي والسياسي في المجتمع.
المراجع
أحمد أوزي، المعجم الموسوعي لعلوم التربية، دار النجاح الجديدة، الدار البيضاء، المغرب، الطبعة: الأولى، 2009م.
باولو فريري، التربية من أجل الوعي الناقد، ترجمة: إلهام أبوغزالة،مطبعة جامعة بيرزيت، 1990م.
باولو فريري، تربية القلب في مواجهة الليبرالية الجديدة، ترجمة: د. سامي محمد نصار، الدار المصرية اللبنانية، القاهرة، الطبعة: الأولى 2007م.
إميل دوركهايم، التربية والمجتمع، ترجمة الدكتور علي أسعد وطفة، دار معد للطباعة والنشر والتوزيع، دمشق، يرموك، الطبعة: الخامسة 1996م.
غوستاف لوبون، فلسفة التاريخ، ترجمة: عادل زعيتر، مؤسسة هنداوي، 2020م.
باولو فريري، ويكيبيديا، https://2u.pw/y5BY4 ، اطلع عليه بتاريخ01/04/2025، على الساعة: 19:56
Margins:
-
باولو فريري، ويكيبيديا، https://2u.pw/y5BY4 ، اطلع عليه بتاريخ01/04/2025، على الساعة: 19:56 ↑
-
إميل دوركهايم، التربية والمجتمع، ترجمة الدكتور علي أسعد وطفة،(دار معد للطباعة والنشر والتوزيع،دمشق، يرموك، الطبعة :الخامسة 1996م) ص119 ↑
-
أحمد أوزي، المعجم الموسوعي لعلوم التربية،(دار النجاح الجديدة، الدار البيضاء، المغرب،الطبعة: الأولى،2009م)ص150 ↑
-
باولو فريري، التربية من أجل الوعي الناقد، ترجمة: إلهام أبوغزالة،(مطبعة جامعة بيرزيت، 1990م) ص09 ↑
-
غوستاف لوبون، فلسفة التاريخ، ترجمة: عادل زعيتر،( مؤسسة هنداوي، 2020م)ص 63 ↑
-
التربية من أجل الوعي الناقد، باولو فريري، ص12، مرجع سابق ↑
-
التربية من أجل الوعي الناقد، باولو فريري، ص38 ↑
-
نفس المرجع ↑
-
نفس المرجع ↑
-
التربية من أجل الوعي الناقد، باولو فريري، ص38 ↑
-
نفس المرجع، ص42 ↑
-
التربية من أجل الوعي الناقد، باولو فريري ص42 ↑
-
نفس المرجع، ص 43 ↑
-
التربية من أجل الوعي الناقد، باولو فريري ، ص 44 ↑
-
نفس المرجع ↑
-
نفس المرجع ↑
-
باولو فريري، تربية القلب في مواجهة الليبرالية الجديدة، ترجمة: د. سامي محمد نصار،(الدار المصرية اللبنانية، القاهرة، الطبعة: الأولى 2007م)ص52 ↑
-
تربية القلب في مواجهة الليبرالية الجديدة، باولو فريري،ص52 ↑
-
نفس المرجع ↑
-
التربية من أجل الوعي الناقد، باولو فريري ، ص 44 ↑
-
نفس المرجع ↑
-
نفس المرجع ↑
-
المرجع نفسه، ص50 ↑
-
نفس المرجع، ص61 ↑
-
نفس المرجع ص101 ↑