قراءة في تحقيق الدكتور محمد ابن شريفة لديوان ابن فركون الأندلسي بين البعدين التاريخي والأدبي والواقعين السياسي والحربي

A reading of Dr. Muhammad Ibn Sharifa’s investigation of Ibn Farkun’s Andalusian collection between the historical and literary dimensions and the political and military realities.

أ.د. عطاء الله الأزمي1

1 أستاذ محاضر مؤهل؛ المركز الجهوي لمهن التربية والتكوين الدار البيضاء سطات؛ ومختبر السرديات والخطابات الثقافية، كلية الآداب والعلوم الإنسانية بنمسيك، جامعة الحسن الثاني بالدار البيضاء، المغرب.

بريد الكتروني: elazami2030@gmail.com

DOI: https://doi.org/10.53796/hnsj65/10

المعرف العلمي العربي للأبحاث: https://arsri.org/10000/65/10

المجلد (6) العدد (5). الصفحات: 123 - 134

تاريخ الاستقبال: 2025-04-07 | تاريخ القبول: 2025-04-15 | تاريخ النشر: 2025-05-01

Download PDF

المستخلص: لا يمكن الحديث عن الدراسات الأندلسية وعن الأدب الأندلسي بالغرب الإسلامي والعالم الإسلامي عموما، دون الوقوف عند جهود عميد الدراسات الأندلسية وأحد أبرز الباحثين فيها، المرحوم الأستاذ الدكتور محمد ابن شريفة، فقد أبلى البلاء الحسن في العديد من الأبحاث والتآليف والمصنفات والتحقيقات التي أثرى بها المكتبة المغربية والعربية والغربية على حد سواء. ولعل تحقيقه لديوان ابن فركون الأندلسي الغرناطي يعد ثمرة من ثمار هاته الجهود، خصوصا أنه يؤرخ أدبيا وشعريا لمرحلة هامة من مراحل المملكة الغرناطية بالأندلس في عهد السلطان أبي الحجاج يوسف الثالث، الملقب بالناصر. ونبتغي في هذه الدراسة تلمس البعدين التاريخي والأدبي والواقع السياسي والحربي في تحقيق الديوان، انطلاقا من مخطوط الديوان، مرورا بعلاقتي بالمحقق وبالتحقيق، وصولا إلى الكشف عن بعض من المظاهر التاريخية والأدبية التي طبعت حياة سياسية أندلسية مليئة بالصراعات والحروب.

الكلمات المفتاحية: ابن فركون، ابن شريفة، التحقيق، يوسف الثالث (الناصر)، الأندلس، غرناطة.

Abstract: It is not possible to talk about Andalusian studies and Andalusian literature in the Islamic West and the Islamic world in general, without paying attention to the efforts of the Dean of Andalusian Studies and one of the most prominent researchers in it, the late Professor Dr. Muhammad Ibn Sharifa. Arabic and Western alike. Perhaps his investigation of the Diwan of Ibn Farkoun al-Andalusi al-Ghannati is one of the fruits of these efforts, especially as he chronicles literary and poetic periods of An important stage of the Granatian kingdom in Andalusia during the reign of Sultan Abi Al-Hajjaj Yusuf III, nicknamed Al-Nasir In this study, we aim to touch the historical, literary, political and military reality in the investigation of the Diwan, starting from the manuscript of the Diwan, passing through my relationship with the investigator and the investigation, leading to the disclosure of some of the historical and literary aspects that marked an Andalusian political life full of conflicts and wars.

Keywords: Ibn Farkoun, Ibn Sharifa, Investigation, Yusuf III (Al-Nasir), Andalusia, Granada.

  • إضاءة :

لا يكاد يجادل باحث أو معتن بتاريخ الأندلس في عَدِّ ما وقع بهاته البقعة من الغرب الإسلامي، نكبة من بين النكبات العظام التي حلّت بالإسلام والمسلمين، لا تعدلها سوى نكبة فلسطين السليبة في الزمن المعاصر. لكن، لا أحد يجادل كذلك في كون فترة حكم المسلمين بالأندلس من بين أزهى الفترات، بل عَدَّها بعض من المؤرخين بالفترة أو العصر الذهبي للأندلس، الذي شهد نشوء حضارة فريدة من نوعها في مختلف المناحي السكانية والعمرانية والتاريخية والاقتصادية والاجتماعية والسياسية والصناعية والفلاحية … وطبعا العلمية والأدبية.. فالأرض التي أنجبت ابن رشد وابن باجة وابن طفيل، هي نفسها التي أنجبت لنا ابن حزم وابن الخطيب وابن زيدون، وحسانة التميمية (أول شاعرة أندلسية)، وعائشة القرطبية، وولادة.. وغيرهم وغيرهن..(*)

وإذا كانت عبقرية الأندلسي قد تفتقت عن أنواع أدبية، نثرية وشعرية مستحدثة، مثل الموشحات والزجل، ارتباطا بجمال طبيع الأندلس الخلابة وسحرها، وتعددت معها الإبداعية النثرية والشعرية التي ملأت الخزانة العربية، فإن بعضا من الإنتاجات الشعرية عدت، إلى عهد قريب، مفقودة أو مبتورة، لأسباب ودواع متعددة ومختلفة، وخصوصا ما ارتبط منها ببعض من الحقب أو الفترات بعينها. ومن ذلك، ما أشار إليه المرحوم برحمة الله شيخ المحققين المغاربة وعميد الدراسات الأندلسية العلامة الأستاذ الدكتور محمد ابن شريفة، في مقدمة تحقيقه لديوان ابن فركون (الأندلسي الغرناطي) ، من شكوى المؤرخين :”من غموض الحقبة الوسطى في تاريخ مملكة غرناطة النصرية، ونعني بها تلك الحقبة التي تقع بين أواخر القرن الثامن الهجري وأوائل الربع الأخير من القرن التاسع”(1). ذلك، أن المصادر العربية التي تتعلق بالحقبة الوسطى – كما يشير المحقق – عدت مفقودة، وخصوصا ما يتعلق بتاريخ مملكة غرناطة الإسلامية التي ينتمي إليها الشاعر أبو الحسين بن أحمد بن سليمان بن أحمد بن محمد بن أحمد بن إبراهيم بن هشام القرشي، المعروف بابن فركون (بضم الفاء كما ضبطها هو بخط يده في كتاب: “مظهر النور الباصر”، وهو ولد أبي جعفر أحمد بن فركون أحد تلاميذ ابن الخطيب، ومعاصر للملك يوسف الثالث(2).

وإذا كان ظهور هذه المصادر مرتبطا بما هو ثقافي أو أدبي أو فقهي، فإنها تسلط الضوء على الجوانب التاريخية والسياسية كذلك، وهو ما سنحاول بسط شذرات منه في دراستنا هذه.

أولا: علاقتي بمخطوط الديوان:

أوائل عام 1987، وكان حينها قد مر حول كامل على التحاقي للعمل بمطابع النجاح الجديدة بالدار البيضاء، مصححا مطبعيا ومدققا لغويا بها، بموازاة دراستي الجامعية بالسنة الثالثة بشعبة اللغة العربية وآدابها (تخصص أدب)، بكلية الآداب والعلوم الإنسانية بنمسيك، بجامعة الحسن الثاني – عين الشق (سابقا) بالدار البيضاء، زارنا بالمطبعة – قادما من الرباط – المرحوم العلامة الأستاذ الدكتور محمد ابن شريفة، كونه كان يطبع أغلب منشوراته بمطبعة النجاح الجديدة. وكان الموعد، هذه المرة، مع كتاب جديد، هو تحقيقه لديوان ابن فركون الأندلسي الغرناطي. لكن، وقع إشكال عند الرقن، خصوصا ما يتعلق بالديوان الشعري الذي كان يربو على ثلاثة آلاف (3000) بيت شعري، وكان مخطوطا بالخط المغربي الأصيل، وكان المطلوب نقله إلى الخط المطبعي العادي المقروء، حيث لم تستطع الراقنات بالمطبعة، حينها، فك شفرات الخط المغربي، فحبلت كل صفحة بعشرات، بل بمئات الأخطاء الرقنية بالأبيات الشعرية، مما دفع صاحب المطبعة ورئيس مجلسها الإداري، الأستاذ الحاج محمد الرايس(أطال الله عمره)، إلى دعوة أستاذنا الجليل المرحوم العلامة الدكتور محمد ابن شريفة من جديد، ودعوتي شخصيا لعقد لقاء ثلاثي معهما، كان الغرض منه طلب د. ابن شريفة مني أن أنقل الديوان كاملا من الخط المغربي إلى الخط العادي كتابة، لتستطيع الراقنات لاحقا رقنه بأقل الأخطاء الممكنة، في انتظار التصحيح النهائي الذي أشرف عليه شخصيا، وكنت حينها ملما بالخط المغربي وسابرا أغواره…

  • ثانيا: علاقتي بالكاتب المحقق وبالتحقيق:

فعلا، تم اللقاء الثلاثي، وشرح لي المرحوم د. محمد ابن شريفة المطلوب والغرض الأساس منه، بعد حديث ماتع، وإبحار أكثر إمتاعا في عالم الأندلسيات، بحضور الحاج محمد الرايس… وهنا، ما زلت أذكر أخلاق الرجل العالية، وتواضعه تواضع العلماء، وحرصه حرص النبهاء، ووجاهة النبلاء، وسمت الصلحاء.. وأتذكر غزارة علمه، ونضارة سجيته، وسعة صدره، واتساع فكره، وأفقه الرحب.. وسبقه وأستاذيته في مجال الدراسات الأندلسية، فهو أستاذ كرسي الدراسات الأندلسية بالجامعة المغربية، وأستاذ زائر بالعديد من الجامعات العربية والإسبانية، وعضو مجامعها اللغوية والبحثية المتخصصة في الدراسات الأندلسية، وحائز على جوائز وطنية ودولية، من أبرزها جائزة الملك فيصل العالمية للدراسات الأندلسية، وغيرها كثير…

وإن نسيت، فلن أنسى دعوته الصادقة الخالصة لي، حين قال لي، بعد إنهاء عملية نقل الثلاثة آلاف بيت، والتي استغرقت مني خمسة عشر (15) يوما، بالتمام والكمال، تفرغا كاملا لها: “زادك الله بسطة في الجسم والعلم”، وما زلنا في باب العلم والتعلم، ولله المنة من قبل ومن بعد.

وكان أن تعهدت الكتاب كاملا بالقراءة والتصحيح، لأعيد قراءة الكتاب/التحقيق، الذي قدم له وعلق عليه وحققه العلامة الدكتور محمد ابن شريفة(عضو أكاديمية المملكة المغربية، وأستاذ كرسي الدراسات الأندلسية)، ثم أعدت الكرة للمرة الثالثة قراءة تامة نهائية قبل الطبع النهائي… ووقر لدي الجميل من شعر ابن فركون، نتجت عنها محاولات شعرية عديدة، ظلت أسيرة الرفوف، ولم تتعد النشر ببعض الصحف الوطنية…

وقد كان اللقاء بأستاذ الأجيال فقيدنا ومحققنا الألمعي سيدي الدكتور محمد ابن شريفة، إيذانا بعلاقة ممتدة عبر لقاءات ومهاتفات ومراسلات، ومع زوجه حرمه الفاضلة وأنيس مسيرته العلمية الدافقة وأستاذيته الفائقة المرحومة الأكاديمية الدكتورة عصمت دندش، ومع الأدب الأندلسي منذ 1987، توجت عام 2002 بمناقشة بحث دبلوم الدراسات العليا المعمقة بكلية الآداب والعلوم الإنسانية ظهر المهراز (جامعة سيدي محمد بن عبد الله) بفاس، في موضوع: “التراث الأندلسي في المسرح المغربي: طوق الحمامة(مسرحية من ثلاثة فصول) لعبد الله شقرون؛ نموذجا”، وبباكورة أعمالي المنشورة، عبر كتاب: “قراءة في مسرحية طوق الحمامة(مسرحية من ثلاثة فصول) لعبد الله شقرون؛ نحو تحليل دراماتورجي”، عام 2004… وأعود اليوم على بدء لأقرأ وأقدم قراءة جديدة في تحقيقه لديوان ابن فركون، قراءة رابعة، بلذة جديدة، وبرؤية أخرى…

  • ثالثا: عن الكتاب / التحقيق:

صدرت الطبعة الأولى للكتاب سنة 1407 للهجرة موافق 1987 ميلادية، عن مطبوعات أكاديمية المملكة المغربية، ضمن سلسلة “التراث”، وطبع بمطابع النجاح الجديدة بالدار البيضاء، حيث قدم لديوان ابن فركون وعلق على حواشيه الأستاذ الدكتور محمد ابن شريفة، عضو أكاديمية المملكة المغربية، ويقع في 406 صفحة من الحجم المتوسط، ويتضمن تقديما ومقدمة للمحقق، وتعريفا بابن فركون، وتعريفا بيوسف الثالث ومملكة غرناطة في عهده، وشخصيته، وسيرته، وعلاقاته بالممالك النصرانية وبالمملكة المغربية، وقد امتد كل ذلك من الصفحة 7 إلى الصفحة 96، ثم صورة الصفحة الأولى من مخطوط الديوان بالصفحة 97، وصورة الصفحة ما قبل الأخيرة منه بالصفحة 98، وصفحة من “مجموع مظهر النور الباصر في أمداح الملك الناصر”، بالصفحة 99، لنباشر ديوان ابن فركون من الصفحة 100 إلى الصفحة 390، فالفهارس من الصفحة 391 إلى الصفحة 404 (فهارس الأماكن – الأشعار )، فأعضاء أكاديمية المملكة المغربية بالصفحة 405، فمطبوعات أكاديمية المملكة المغربية بالصفحة 406.

  • رابعا: بين الأدبي والتاريخي: الأبعاد والدلالات:

ألمحنا في ما تقدم إلى معاصرة شاعرنا أبي الحسن محمد ابن فركون الأندلسي الغرناطي للسلطان أبي الحجاج يوسف الثالث، الملقب بالناصر، بل إنه كان شاعر البلاط النصري في عهده. وتؤكد المشيرات التاريخية – كما يورد ذلك د. محمد ابن شريفة – على أن ديوان ابن فركون يمثل الرواية المفقودة حول فترة حكم يوسف الثالث، حيث نجد تعريفا مفصلا بهذا السلطان أبي الحجاج يوسف الملقب بالناصر لدين الله ولد السلطان أبي الحجاج يوسف الملقب بالمستغني بالله، ولد السلطان محمد الخامس الملقب بالغني بالله(3). ويذكر لنا المحقق تاريخ ولادته: “في منتصف ليلة الجمعة السابع والعشرين لصفر من عام ثمانية وسبعين وسبعمائة (15 يونيو 1376)، وذلك في عهد جده الغني بالله، وهو عهد بلغت فيه دولة بني الأحمر ذروة مجدها، وقمة عزها، وكان كبير إخوته…”(4). وهذا التاريخ، كما جاء في هامش 38 بالصفحة 19، ورد في رخامة قبره المنشورة في كتاب لفونتي القنطرة عن النقوش العربية الغرناطية (ص.41)، وكذلك في كتاب لبروفنسال حول النقوش العربية الأندلسية(5).

ولعل كتاب يوسف الثالث الشاعر الوزير ابن زمرك “البقية والمدرك من كلام ابن زمرك”، يؤرخ لفترة ما قبل حكم يوسف الثالث، من خلال أشعار وصفت العديد من المناسبات والاحتفالات في فترة حكم جده الغني بالله، منها:(6)

وقـــــــــد كـــان روع الحـــفــــــل روع أهـــــلـــــــه

 

وأشـعـرت الإشــفــاق تـلــك المحـافل

فــأبــــدت بــــه أبـــنـــــاء نجـــلــك أوجـــــهــــــــا

 

تبيـن إلـى السارين منها المـجــــاهــــل

فلا الحفل مرهوب ولا الخطو قاصر

 

ولا السرب مرتاـع ولا الروع هائــــل

ولا القلب منخوب ولا الحلم طائش

 

ولا العقل معقول ولا الفكر ذاهل

ومنه، إشارته إلى الشيوخ الذين تتلمذ على أيديهم، مما أهل هذا الأمير (وقتها) إلى اكتساب ثقافة علمية وأدبية غنية، تؤكدها كتاباته وتعليقاته وأشعاره.

ويورد المحقق كيف أن تولية الأمير ولاية العهد من لدن والده السلطان يوسف الثاني قد جرت عليه غضب أخيه محمد، الذي لم يفوت الفرصة، خصوصا بعد فترة حكم أبيهما، التي لم تدم سوى سنة واحدة(793 – 794هـ / 1391 – 1392م)، حتى انقض على الحكم وأبعد أخاه إلى سجن شلوبانية، الذي ظل قابعا فيه إلى حدود سنة 810/1408، وهناك نظم أشعارا في عتاب أخيه، وفي الحنين إلى غرناطة، منها قوله(7):

فإن دمعت عيناك فلتبك يــوسفـــــــا

 

فذاك بموصول المدامع أجدر

إمــام لـــــــه فــــــي الـصالـحات تـــقــدم

 

وليس له في المعلوات تــــأخـــر

تولى فولى بعده الأنس وانقضى

 

فـــلا أثـــر إلا الأسى والـــتــفكـــــر

والشاعر الأمير حين عتابه أخاه، يتأرجح بين اللين تارة والشدة تارة أخرى، يقول(8):

ومـــــــا غـرنــي جــــهـــــــل ولـــكــــن أبـــــــــوة

 

رعـــيـــت لـــــهــــا حــق الــمــكــانــة والــــــــبـــــــــر

أطــارحه شجوى فيصبح لي شجــــا

 

تـــعــــرض لــــــي بـيـــن اللــهـــاة أو الــــنــحـــــر

وأوســــــعـــتـــه حــــلــمـــا فــــــظـــن بـــأنــنــي

 

رهبـت وأن الحـــلـــم يـــــصـــدر عن ذعــــر

يــمــن بــما يـسدي كأن لي حــاجـــة

 

إلـى وده الممقــــوت أو خـلـقـــه الـــوعــــر

ســـيــعــــلــم مــن مــنــا يـــــــســـر نــدامــة

 

إذا وضح الإصباح عن صادق الفجر

ومن أشعار الحنين، قوله (9):

فــــإن ســـدت الأبـــواب بيني وبينكم

 

ستقضي مـــنــانـــا شــمـــــأل وجــنــــوب

فـبالله يــــــا ريــــح الــــجـــــنــــــوب تـــأمـــلــي

 

أيـلـقى سلامـي من حبــيــبــي قــبــول

وإن جلت بالحمراء فاقري تحيتي

 

ديــارا خـلـت مـنـــي فـــهـــن طــــلـــــــول

وهبي على القصر الكبير عـــليلــــــة

 

فــــإن بــــه أهـل الحــبــــيــــب حــــــلــــول

وقولي: غريب أتلف الحب قلـبه

 

لــــــــه أنـــــة لا تــــنـــــقـــضـــي وعــــــويـــــــــــل

ومهما يكن من خلو أشعار يوسف الثالث من تواريخ، فإنها قد سجلت لنا مجموعة من الأحداث ذات الأبعاد والدلالات التاريخية الهامة خلال هاته الفترة، ومنها أيضا رثاؤه للوزير ابن زمرك الذي أعدمه أخوه السلطان محمد السابع، لريبة نسبت إليه من الوشاة، حيث يقول(10):

يــــا نــائم الجفن أسعـــف دائــــم الــســــهــــــر

 

يبكي دمــــــا لقتيل الصارم الـــذكــــر

كــــم ذا الرقاد وهـــــذا الدهــــــر يــــفـــجـعـــنــا

 

أما تفيــــــق لهذا الحادث النـــــكــــر

أودى الزمــــان بـــــمــــن كـــــنــــا نــــــلـــــــوذ بــــــــــــه

 

في حالتيه معا في العسر واليسر

فــــلا تـــــثــــــق بـــجـــــفــــون بـــــــــان نـــــــــاظــــرهـــــــــــــا

 

ولا بملك فقــــيد السمع والبصــــــر

غمض جفــــونــك لا تـــــنـظـــــر إلــــــى أحـــــــــد

 

فــليس بعد أفـــول البدر من نـــــظــــــــر

واعجب من الدهر والأيام إذ طمست

 

مطالع الزهر أو أخفت شذا الزهر

ويرجع المحقق هاته العناية التي أبداها يوسف الثالث برثاء ابن زمرك وجمع تراثه، والاهتمام بأبنائه وأحبائه، ومواجهة خصومه وأعدائه، إلى روابط أدبية أو مكافأة لمواقف سياسية، بسبب تعاطف الوزير مع الأمير والمطالبة بتحريره من السجن.

وقد كانت وفاة السلطان محمد السابع سنة 810هـ/ 1408م، إيذانا بعودة الأمير من مكانه الطبعي الذي كان أولى به من أخيه لولايته للعهد قبله.. ومن مطلع قصيدة أنشدها تهليلا بهذا الحدث التاريخي (11):

(ثم) عدنا، والعود أحمد، لكن

 

إن أساءوا فإننا محسنونا

هذا، رغم أن أخاه السلطان محمدا السابع كان قد أمر بقتله وهو في لحظات احتضاره، لولا العناية الربانية… أ إلى هذا الحد يبلغ بغض الأخ لأخيه مداه، وعشق السلطة أقصاه، حيا وميتا؟؟

ومن الشعراء الذين عاصروا فترة حكم يوسف الثالث، وكانت لهم حظوة لديه، وبدرجات متفاوتة، وأغلبها مدون ومثبت بمخطوط “مظهر النور الباصر، في أمداح مولانا أبي الحجاج الملك الناصر”، نذكر: أبو يحيى ابن عاصم، وهو -كما أشار المحقق – ولد المذكور آنفا، ومؤلف “جنة الرضى” و”الروض الأريض” (الذي لم يعثر عليه)، و”شرح التحفة”، ورجل الدولة خلال الأحداث التي وقعت في عهد يوسف الثالث، والشيخ أبو جعفر أحمد ابن فركون، وولده أبو الحسين صاحب هذا الديوان، والشريف أبو العباس الحسني، وأبو الحسن علي بن عبد الرحمان بن هذيل مؤلف كتاب “تحفة الأنفس، وأشعار سكان الأندلس”.. والفقيه الخطيب أبو عثمان سعد بن يوسف الأليري، ومنهم كذلك أبو القاسم بن حاتم المالقي، وأبو زكرياء يحيى بن أحمد السراج الرندي، وأبو القاسمبن سالم المالقي، وأبو الحسن الغافقي، وأبو القاسم العرادي، وأبو عامر بن أبي منصور الحسيني….

وأسوق أنموذجا لاحتفاء الأندلسيين وابتهاجهم بعودة الحق إلى نصابه بتولية يوسف الثالث، مدح الشاعر أبي زكرياء يحيى بن أحمد بن السراج الرندي، قائلا (12):

لـمـا تـــولـــى الأمـــر وهـــو حقيقـــة

 

نـــعــــــم الأحـــــق بــــه وأكــــــرم أهــــــلـــــه

وجب الهناء على العبيد بـمن إذا

 

بــــخــل الـــغمــــام أتـــــى به في سجله

جـــاء الوفود مبـــايعيـــن إمــــامــــهـــم

 

مـــــســــتـــمـــــــســـكيـــــــن بــحلمه وبعدله

وأتى العبيد مهـنئـــيـــــن وكـــــلــــهــــــم

 

قـــــد فــــــاز مـــن حـــظ الســــــرور بكله

خلوا بساحة بابه فجمــــيـــــعــــهـــم

 

مــــا عاش يـحمد حسن عقبـى حله

فلتهـــنــــــإ الدنــيـــا ويــــهـــنـــأ أهـــلـــهـــا

 

بــحـــلول مــــيـــقات الــظهـــور وفـــضلــــه

صنع من الله العظيـــم تبلجــــــــــت

 

صبحـا يـــروق سنـى عجائب فــــعـــلــــه

لقد كانت هذه التولية – حسب المحقق – وعمر الملك يوسف الثالث حينها 32 سنة، قضى حوالي نصفها بسجن شلوبانية – كما أسلفنا – وقد خلد الشاعر ابن فركون واقعة زواج الملك، وما صاحبها من احتفاء واحتفال واستقبال للوفود الوافدة من الأندلس ومن خارجه، بهائية طويلة، من بين ما جاء فيها (13):

مــــــــــــا للــــركائــب لا تـــحـــل حــــــلالـــــــهـا

 

وتطيل فـي تلك الـــربـــوع سؤالــــهـــــا

هـذا وقــــد وافـى صــنــيــعــــك للـــــــورى

 

فـمـواهـب الـصنع الجميل أنـالـهـا

هذي الـسبـيـكـة ملعـب الـخيل الــتي

 

ألــــقــت بـــأفـــئـدة الـــعــداة خـبــــالــــهــــا

إن جــــردت بـــــيـــض الــســـيـــوف لـــغـارة

 

لبست من النـقـع الـمــثار جلالــهــا

فإذا المواكب في مداها استشرفت

 

ما للكواكب فـي السماء وما لـها

وكان من مطلع احتفائه بمولد بكر الملك يوسف الثالث، قوله (14):

هنيئا بـــــه من عـــالم الكون وافـــدا

 

وقد بلغ الإسلام فيه المقاصدا

ويورد المحقق (15) أن الفرحة لم تكتمل، إذ وافت زوج الأمير المنية إثر عملية الولادة، كما لحق بها مولودها بعد عقيقته مباشرة، مما حول أشعار المديح بالميلاد السعيد للابن البكر للملك إلى مراث أو مرثيات للمصاب الجلل والحدثين الحزينين تباعا.

ولعل واقعة زواج الملك يوسف الثالث لاحقا من بنت القائد أبي السرور مفرح، والتي رزق منها بأولاد كثر، كان لهم شأن بمملكة غرناطة، كانت مما أثبته شاعرنا في قصيدة مطولة مطلعها (16):

نسيم الصبــــا راع الصبابة وفـــده

 

فمـا للجــوى طي الـجوانح وقـــده

عليل سرى يشفي الغليل بوافد

 

قـد ابــتـــل من دمع الـغـمامـــة بـــرده

يـــذكـــر من تلك الـمعاهد حـــلــــة

 

سقى عهدها من دمع عيني عهده

وحيا فـأهدى الـمستهام تــحــيــــة

 

سنا بارق في السحب يقدح زنده

ومن بين المواضيع التي طرقها شاعرنا ابن فركون حين مدحه للملك يوسف الثالث، العيديات (خصوصا عيدي الفطر والأضحى)، وهي عيديات غطت فترة تاريخية تمتد من سنة 811هـ إلى سنة 819هـ، وقد تضمنت إشارات ووقائع وأحداثا تاريخية، منها قصيدته التي أنشدها بحضرة السلطان يوم عيد الفطر من سنة 812ه (17):

ألا ليت شعري أي نعماك أشكر

 

وأي جزيل من عطاياك أذكــــر

لأوليتنـي النعمى التي جل قـدرهـا

 

وأمـــنــتـــنـي مــمـا أخــــاف وأحــذر

ومـن أمـل الـمـولى الخليفة يـــوسفـــــــا

 

فـــلا مــــقـــصــد يــــنــــأى ولا يـــــتــــعـــــذر

……………………………… ……………………………

لــك الملك أضحى تبع تــــابعــــا لـــــــه

 

وقصر عنه في مدى الجود قيصر

محياك عنه مــطــلـع الصبح مــشـــرق

 

وكــفـك فيها عـــارض الجـود مـمـطــر

…………………………….. …………………………….

هو الـنـاصر المولى الذي جـود كـفــه

 

من الغيث أندى أو من الشمس أشهــر

إمـــــــام هــــمـــــام خــــــاشـــــع مــــــتـــــبـــــتــــل

 

أغــــــر وهــــوب واضــــــح الــــبـــشــــر أزهــــــر

يــطــــاول أمـــلاك الــــزمـان إذا انــتــمى

 

قـــــبــــيـــل إلـــى صـــــحـــب الـــنبـــي ومــــعــشــر

وفــــي حـــربــــه يــــرتـــــاح سيـف وذابـــــل

 

وفــي ســلـــمــه يـــــــــزهـــــى ســـــريـــــــر ومـــنــــبــــر

ويــطــلــع مــنه الـــــوجــــه أزهـر بـــاســــمـا

 

ولــــــلأفـــــــق وجــــــه بـــــــالـــعــــجــــاجــــــة أغـــــبـــر

ســـيـــعـــمــــــر بـــــالـــتـــــوحيـــد كــــل ثــــنــيــــة

 

وربــــع الــــعــدى مـــن آهـــل الشـــرك مـــقـــفـــر

بالإضافة إلى أشعار عديدة، لا يسع المجال لإيرادها كاملة، تؤرخ لرحلات الملك يوسف الثالث، الداخلية والخارجية، ولإنجازاته المختلفة، ولإشرافه على حماية الثغور والحصون، وإخماد الفتن التي كانت تطل برأسها بين الفينة والأخرى.

وتجدر الإشارة إلى دعوة الملك الناصر لأعضاء المجلس العلمي لغرناطة لحضور مجالسه في الأعياد والمناسبات والاحتفالات، مما يؤكد ما ألمحنا إليه آنفا، من تقديره وتقديمه لأهل العلم والدين والأدب، وهي إشارة تاريخية إلى سبق إنشاء المجالس العلمية بالأندلس، شأنها شأن السبق إلى إنشاء محكمة الماء، التي عدت أول محكمة من نوعها – تاريخيا – بالعالم.

ومن الإشارات التاريخية كذلك، ما علق به السلطان أحمد المنصور الذهبي على مطلع قصيدة ارتجلها الشريف أبو العباس الحسني مدحا ليوسف الثالث، في حضرته، وهي مضمنة بالنسخة الخطية لديوان “مظهر النور” التي كانت ملكا للمنصور الذهبي، كما يورد المحقق بقوله: “لا ينبغي لعاقل أن يخرج من فيه، مثل هذا القول السفيه”(18).

أكتفي بهاته الإشارات والمشيرات التاريخية التي أرخها ووثقها الحسين ابن فركون شعريا، في معظم حياة يوسف الثالث، أميرا وسجينا ثم ملكا، لأنتقل إلى بسط موجز للواقع السياسي والحربي، الذي جسدته هاته المرحلة من حكم الأندلس، وبالمملكة الغرناطية على وجه التحديد.

خامسا: من التاريخي إلى السياسي والحربي:

إذا كان المشهد التاريخي حاضرا ومجسدا في أشعار ابن فركون بمختلف أنواعها وأنماطها وموضوعاتها وتلويناتها ومناسباتها … ويكاد لا يفارقها، لارتباطه بتأريخ أدبي شاهد على مرحلة من مراحل الحكم بالإمارة أو المملكة الأندلسية (الغرناطية)(**)، فإن الواقع السياسي، الداخلي والخارجي، والواقع الحربي حاضران بشكل لافت أحيانا، وخافت أحيانا أخرى، في ديوان ابن فركون.

ومما ينبئ عن ذلك – قبل بسط بعض من الأشعار التي تثبت هذا الحضور وتسجله – ما أورده المحقق، من كون يوسف الثالث:”كان ملكا حازما ويقظا، ومن مظاهر حزمه ويقظته، كثرة تنقلاته في مملكته، وفي ديوان ابن فركون قصائد كثيرة تسجل هذه التنقلات، وهي إما تنقلات لتفقد أحوال البلاد أو لمعالجة القضايا الطارئة أو للإشراف على تنفيذ خططه السياسية أو للنزهة والراحة والصيد”(19).

ومن سياسته الداخلية أو الخارجية، ما أثبته ابن فركون في العديد من أشعاره، منها ما جاء في مطلع قصيدة له بمناسبة زيارة الملك يوسف الثالث لمالقة لأول مرة، حيث تفقد جندها، وأمر بإراقة الخمور، وتغيير المنكر، وإذاعة أفعال الخير والبر(20):

أسلت دم العنقود في الله مظهرا

 

لأفعال بر في الوجود تذيعها

لذلك جاد الغيث منها أبــــاطحــا

 

بــهــا زهر أزهار جلاها ربيعـهـا

وكذا قول ابن فركون عند انتقال يوسف الثالث إلى حصن المتلين الذي كان له دور في حماية مملكة غرناطة(21):

إذا ما عدو الدين جاس خلالـــه

 

ورام استراق السمع كــــف مريده

تــــمــر بــــــه هـــوج الــــريــاح فتنثـــــنـــي

 

وقد سد مسراها الرفيع صعـوده

تــــروم ســمــوا فـــــــوقـــه وهــي دونــــه

 

فـــتـــقــصر عــمـــا تشــتــهـــي وتـــريــده

دعوت له أهل الجهاد فأهطعوا

 

كــمــا زارت البيت العتيق وفـوده

ودارت حـــواليه الــجنود كـأنــــهــــــا

 

وشـاح على خصر يــروق فـــريـــده

وقد بدا للمحقق المرحوم الدكتور ابن شريفة، أن حصن المتلين، كما هو وارد في الديوان، وكذا في كتاب “جنة الرضى”، هو تحريف لحصن المكلين، الواقع شمال غربي غرناطة، وأظنه تصحيفا، كونه أبدل حرف صحيح بحرف صحيح آخر، ولم ترد الروايات على قصدية تحريفه، وإنما قد يكون وقع التصحيف أثناء النقل والكتابة، والله أعلم.

ولا شك أن سياسة يوسف الثالث الخارجية، خصوصا مع الممالك المسيحية التي كانت تحيط بمملكة غرناطة – كما يشير المحقق – من قبيل قشتالة وأرغون، قد تأرجحت بين السلم والحرب والجهاد والهدنة. ونجد صدى لذلك في العديد من أشعار ابن فركون وغيره من الشعراء الذين جايلوه. من ذلك، ميل أبي الحسين ابن فركون إلى سياسة المهادنة، بقوله (22):

تأتي وفــود الــروم تخطب ســلـمــه

 

فيكف كــــف القــــادر الــمـتـعــفــف

ووليهم يخشى –فيردف رسله-

 

إرســـال جيش بالملائــك مـــردف

أعــــر الجـواب بها على ظمإ لها

 

تنقع جوى المتشوق المتشوف

واجــنح إلــيــها مــنـعــمـــا مــتــفـضلا

 

لا زلـــت أكــرم واهـــب مــتــعــطــف

وميل شاعرنا إلى المهادنة، كان يقابله ميل يوسف الثالث إلى الجهاد، وهو ما يبثه الملك في قصيدة، مما جاء فيها(23):

وإن “إفـــنــت الـــــروم” يــنـــقـــاد خــاضعــــا

 

كما انقاد من بعد الإبـاء جــمـــوح

سيرضى بحكم السيف منه مـســـوف

 

ويسمح بــالــمــال الــعريـض شـحيح

وذلــــك ســــهـــل فـــــي مـــشـــيــــئـــــة قـــــــــادر

 

يـــنـــيــــــل مـــــــرامـــــــا مرتـجـــى ويـــتـــيـــــح

أما نـــحن – والله العليم بقصدنا-

 

نـــهــــجــــر فـي نصر الــهدى ونريـح

بـــــــأفـــــــئــــدة لا يـــســــتـــــقـــــــــر قـــــــرارهــــــــــــا

 

وهــل بــــمـــــثـــار الـــنـــقع تـــــهـــدأ ريح

يصرح ملك الــــــروم جهدا بـــصــلحــه

 

وبرهـــان مـقصودي لـــديــه صريـــح

وهـــل لـــي إلـــى غير الــحروب تـطـلـــع

 

وهل لي إلى غير الجهاد طموح

وفي موضع آخر، يصف ابن فركون الصخرة الشماء، واجتياح جند الله لها، قائلا (24):

وإن “إفنت” الروم يـجهد كلما

 

أراه الـــمــقام اليـــوســـفـــــي جـــهـــــاده

وكان ولــي الشرك وافـى مطاوعـا

 

هــوى ساقـــه نـحــو الـهوان وقــاده

فــفــاز بــهـا طـوعــا، وحل بأفـــــقهـا

 

وألـــقـــى لــــــديــــــهـــا ذخــــره وعـــتــاده

وسار إلـى أوطـــــانه وهـــــو ظـــافــر

 

لها لا إلى الأخرى يرجى معاده

وكـــان إلــيــهــا الآن يأتــي بــزعمــه

 

يـــــريــــد ويــــــأبــــــى اللــــه إلا مــــــراده

كما يصف عودة أخ الملك الأمير أبي الحسن من غزو شقورة، بقوله (25):

لـما التقى الجمعان في أرض العدى

 

ورميت جـــمعهم بــبـأس معجل

نادى بـــأبـطـــــال الــجهاد ألا اقدموا

 

وأجال فـــيــهـــم نـــظــرة الـمـتــأمـــل

فــــــــتــســارعــــــوا إلــى داعــي الـــــــهـــدى

 

والروم عن سبل النجاة بـمعزل

ويرى العلامة محمد ابن شريفة، أن ديوان ابن فركون يرسم صورة قاتمة عن العلاقات بين مملكتي غرناطة والمغرب، وبين الملكين المتعاصرين: يوسف الثالث النصري وأبي عثمان سعيد بن أحمد بن أبي سالم المريني، نظرا لطموح كل ملك في بسط نفوذه على مملكة الآخر، يسجل ابن فركون ذلك قائلا (26):

ملك العدوتين شرقا وغربا

 

من يضاهيه في العلى أو ينافس

لكن ذلك اصطدم بقوة كل واحد منهما، وقدرته على الحفاظ على مملكته، رغم المناوشات التي كانت تقع بين الفينة والأخرى، منها ما دونه شاعرنا، بعد أسر ما وصفه بالرئيس البائس الواصل من المغرب في محاولة لاسترداد جبل طارق، ولم يستطع تحديد هويته – حسب المحقق – قائلا (27):

أتـــى وثـــيـــاب الـــــهـــــون تـــــعـــلـــــو قــــيــــوده

 

فــيـرسف طـــــوع الـــذل فـــيـهــا ويـــرفــــل

وجـــاء وقــد حفــت بــه الــشــيــعـــة الـــتــي

 

لـها من ذميم الغدر ما ليس يـجهل

تحامى طريق الـرشد من قبل فاغتدى

 

تــــــــذلـــلـــــــــه آراؤهــــــم وتــــــــضــــلـــــــل

ولـــــو أمــل الـمـولـــى الــخليــــــفة يــوسفـــــا

 

لــــمـــا راعــه خطب من الدهر معضل

ومن أنموذجات السياسة الخارجية، أو ما يصطلح على تسميته اليوم بالتدخل في الشؤون الداخلية للدول، دعم الملك يوسف الثالث للسعيد محمد بن عبد العزيز بن أبي الحسن المريني، الذي نفي إلى الأندلس بعد خلعه من ملك أبيه بالمغرب، بأجفان أندلسيين وبالفرسان والرماة لاستعادة ملك أبيه الضائع، وكان ذلك انتقاما من السلطان أبي سعيد عثمان المريني، الذي سعى لاسترداد جبل طارق بعد مبايعة ساكنته له (28)، يقول ابن فركون(29):

وكم مــن يد بيضاء طوقتها فتـى

 

إلى منزل “البيضاء” قد أعمل الرجعا

رمى “داره البيضاء” أخذا بثأره

 

بما قد رمى سيف بن ذي يزن صنعا

درأت به فــي صدر كل مــعــانــد

 

سهـــام الـمنايـا نـحـــوه أحكمت وقــــعـــــا

وفي هاته النازلة شعر وفير، يصور محاولات هذا السعيد الفاشلة، كرا وفرا، انتهت إلى الهدنة والصلح. كما أن هاته الوفرة تنسحب على العديد من أشعار ابن فركون الأخرى التي توثق البعد السياسي والحربي لهاته المرحلة، في علاقة مملكة غرناطة بالممالك المجاورة النصرانية والمسلمة (المغرب)، من تحصين الثغور، ومواجهة الفرنجة والمارقين، أو غزو أو محاصرة لجبل أو حصن أو ثغر آخر… نجدها منبثة في صفحات عديدة من التحقيق(30).

ولا يفوتني التذكير، بأن المحقق العلامة المرحوم الدكتور محمد ابن شريفة قد أفرد صفحات للحديث عن الموهبة الشعرية التي كان يتميز بها يوسف الثالث، وخصوصا معارضاته وتضمينه، وأغراضه الشعرية، مما لا يسع المجال لإيرادها في هذا الحيز المحدود، على أن ذلك كله يؤكد السياسة الأدبية والعلمية والثقافية والفنية والعمرانية… التي كان ينتهجها هذا الملك، وعنايته الفائقة بالأدباء والعلماء والشعراء وبأهل الفن، كما ألمح إلى أنه: “له ما عدا هذا شعر سياسي سجل فيه الحوادث الوقتية، وهو ذو قيمة تاريخية واضحة” (31).

خاتمة:

يمثل الديوان الشعري لأبي الحسين ابن فركون الأندلسي الغرناطي، وثيقة تاريخية هامة ذات أبعاد حضارية وسياسية، ونفيسة من النفائس التي اكتشفت بالمغرب.

ولعل الجهد الجهيد والبذل الوافي الذي سخره المرحوم العلامة أستاذ الأجيال أستاذ كرسي الدراسات الأندلسية الدكتور محمد ابن شريفة لتحقيق هذا الديوان، والتقديم له والتعليق عليه، قد نفض الغبار عن حقبة بارزة من تاريخ مملكة غرناطة النصرية ما بين القرنين الثامن والتاسع الهجريين، عبر سبر أغوار هذا الديوان الشعري الخامس الذي وصلنا من العصر الغرناطي، والذي أكد المحقق أن اكتشافه “يطلعنا على شعر لا يقل جودة عما قبله، ويعرفنا بشاعر لاحق بطبقة أولائك الأعلام، فقد استطاع هذا الشاعر أن يرقى إلى مستواهم في إتقان البناء وإحكام الصنعة، بل لعله أن يكون أكثر منهم افتنانا في التصنيع وافتتانا بالبديع، و…قد اقتبس في مديحه ونسيبه بعض طرائق المتنبي والرضي ومهيار ونحا في التجنيس والتورية شيئا من مناحي ابن النبيه وابن نباته وابهاء زهير..”(32).

ويظل شاعرنا أنموذجا لجيل من الشعراء الأندلسيين الذين ضاعت أشعارهم وأخبارهم. وقد وسع ديوان ابن فركون مختلف الأغراض والبحور والأوزان الشعرية، وطرق أبوابا ومواضيع شتى.. وبقي في النفس – منه – شيء من حتى…

وقد عده شيخ المحققين المغاربة وعميد الدراسات الأندلسية المرحوم العلامة الأستاذ الدكتور محمد ابن شريفة – في نهاية تقديمه للتحقيق – من بين “حلقتين – كانتا مفقودتين – من حلقات الشعر الأندلسي في العصر الغرناطي، وإن ظهورهما يبعث الأمل في ظهور غيرهما من تراث الفردوس المفقود”(33).

Margins:

(*) مصطفى الشكعة، الأدب الأندلسي: موضوعاته ومقاصده، دار النهضة العربية للطباعة والنشر، بيروت، (1972)، صفحات: 7،6،5.

(1) ديوان ابن فركون، تقديم وتعليق محمد ابن شريفة (عضو أكاديمية المملكة المغربية)، الطبعة الأولى، مطبوعات أكاديمية المملكة المغربية، سلسلة “التراث”، الرباط، 1407-1987، ص: 7.

(2) المرجع نفسه، ص.ص.7- 9.

(3) المرجع نفسه، ص:19.

(4) نفسه، ص:19.

(5) نفسه، هامش ص:19، الصفحة نفسها.

(6) نفسه، ص:20.

(7) نفسه، ص:21.

(8) نفسه، ص:22.

(9) نفسه، ص:23.

(10) نفسه، ص:24.

(11) نفسه، ص:26 (وفي الأصل كتبت همزة أساؤوا على السطر، والصواب أن تكتب على الواو).

(12) نفسه، ص:ص. 28- 29.

(13) نفسه، ص: 29.

(14) نفسه، ص:31.

(15) نفسه، الصفحة نفسها.

(16) نفسه، ص:133.

(17) نفسه، ص.ص. 150 – 151.

(18) نفسه، ص: 37. وقد ورد بالصفحة 145 من كتاب “مظهر النور”.

(**) أحمد هيكل، الأدب الأندلسي من الفتح إلى سقوط الخلافة، الطبعة السابعة، دار المعارف، القاهرة، (1979).

(19) نفسه، ص: 39.

(20) نفسه، ص: 40.

(21) نفسه، ص: 41.

(22) نفسه، ص: 62.

(23) نفسه، ص: 63.

(24) نفسه، ص: 64.

(25) نفسه، ص: 67.

(26) نفسه، ص: 70.

(27) نفسه، ص: 74.

(28) نفسه، ص: 79.

(29) نفسه، الصفحة نفسها.

(30) نجد أمثلة متعددة لهذا النوع من الشعر منبثة في الصفحات الآتية من الكتاب/ التحقيق: 156- 161- 163- 164- 166- 167- 171- 180- 183- 195- 198- 201- 210- 216- 220- 303- 318- 331- 345- 358- 370- 374……

(31) نفسه، ص: 58.

(32) نفسه، ص.ص. 95-96.

(33) نفسه، ص: 96.

المصادر والمراجع

الأدب الأندلسي من الفتح إلى سقوط الخلافة، د. أحمد هيكل، الطبعة السابعة، دار المعارف، القاهرة،(1979).

الأدب الأندلسي: موضوعاته ومقاصده، د. مصطفى الشكعة، دار النهضة العربية للطباعة والنشر، بيروت، (1972).

ديوان ابن فركون، تقديم وتعليق د. محمد ابن شريفة (عضو أكاديمية المملكة المغربية)، الطبعة الأولى، مطبوعات أكاديمية المملكة المغربية، سلسلة “التراث”، الرباط، (1407-1987).

“الحضارة العربية الإسلامية في الأندلس”، جماعة من المؤلفين (تحرير : د. سلمى الخضراء الجيوسي)، المجلد الأول، منشورات مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت – لبنان، كانون الأول/ ديسمبر (1998).

– “طوق الحمامة في الألفة والألاف”، محمد علي بن أحمد ابن حزم الأندلسي، تحقيق د. إحسان عباس، الطبعة الأولى، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت، (1993)؛

– “طوق الحمامة في الألفة والألاف”، محمد علي بن أحمد ابن حزم الأندلسي، شكلها، وعلق حواشيها، وقدم لها، ووضع لها فهارسها: نزار وجيه فلوح، تقديم ومراجعة : د. ياسين الأيوبي، الطبعة الأولى، المكتبة العصرية للطباعة والنشر، بيروت – صيدا، (2001).