اشعار جبران خليل جبران في ضوء النقد الثقافي

م. د. حمزة عبيس عبد السادة1

1 كلية المستقبل الجامعة / العراق / بابل

بريد الكتروني: hamza.obais@mustaqbal-college.edu.iq

HNSJ, 2022, 3(9); https://doi.org/10.53796/hnsj395

تنزيل الملف

تاريخ النشر: 01/09/2022م تاريخ القبول: 10/08/2022م

المستخلص

– خرق جبران في شعره الجديد شكل القصيدة الكلاسيكية فسعى من خلال ما ابدعه من شعر الى زحزحة النسق الشعري القديم القائم على نظام الشطرين ، وتلاعب في اطوال الاشطر ، ونظم الشعر المقطعي .

2- اعتمد جبران خليل جبران في شعره الصور الشعرية التي تتجاوز حدود البلاغة العربية القديمة من خلال غرائبيتها التي تصل حد المفارقة ، بينما القدامى يريدون الشعر سهل المخرج قريب المأخذ .

3- اعتمد جبران خليل جبران في شعره لغة الحياة اليومية ساعياً الى زحزحة النسق القديم الذي خطه القدامى القائم على اللغة الفخمة الجزلة .

4- ثار جبران على النسق الشعري القديم الذي هيمن على الشعر العربي المتمثل بشعر الغزل الحسي الذي يبغي اشباع غرائز الشاعر الجنسية من المرأة اما الحب في نظر جبران هو حب رومانسي يجل المرأة ويقدسها .

5- زحزح جبران النسق السائد في الشعر العربي القديم الذي يقوم على وصف الطبيعة من الخارج ، ودعا الى نسق شعري جديد يمثل رؤية الرومانسيين للطبيعة فجبران وزملاؤه الرومانسيون يقدسون الطبيعة ويرون فيها اماً تحتضنهم وملاذاً يجدون فيه الامان .

6- تأمل جبران في النفس الانسانية وتعمق فيها من اجل كشف اسرارها.

الكلمات المفتاحية: ثقافي، نقد، ضوء، اشعار، جبران.

Research title

The poems of Gibran Khalil Gibran in the light of cultural criticism

Dr. Hamza Obeis Abdel-Sada 1

1 University College of the Future / Iraq / Babylon

Email: hamza.obais@mustaqbal-college.edu.iq

HNSJ, 2022, 3(9); https://doi.org/10.53796/hnsj395

Published at 01/09/2022 Accepted at 10/08/2021

Abstract

1- Gibran, in his new poetry, violated the form of the classical poem. He sought, through his poetry, to move the old poetic system based on the two-part system, and to play with the lengths of the syllables, and to organize syllabic poetry.

2- Gibran Khalil Gibran relied in his poetry poetic images that transcend the limits of ancient Arabic rhetoric through their strangeness that reaches the point of paradox, while the ancients want poetry that is easy to exit and close to the outlet.

3- Gibran Khalil Gibran relied in his poetry on the language of daily life, seeking to displace the old pattern, which was written by the ancients based on the luxurious and generous language.

4- Gibran revolted against the ancient poetic pattern that dominated Arab poetry represented by the sensual spinning poetry that seeks to satisfy the poet’s sexual instincts from women. As for Gibran’s view, love is a romantic love that reveres and sanctifies women.

5- Gibran moved the prevailing pattern in ancient Arabic poetry, which is based on describing nature from the outside, and called for a new poetic pattern that represents the vision of the romantics of nature.

6- Gibran contemplates the human soul and delves into it in order to reveal its secrets.

Key Words: cultural, criticism, light, poetry, Gibran

المقدمة :

يعد النقد الثقافي ظاهرة من اهم الظواهر التي واكبت نقد ما بعد الحداثة او ما بعد البنيوية في مجالي الادب والنقد فهو نشاط ثقافي او فعالية نقدية ثقافية يمكنه الاستعانة بجميع المناهج ليتوصل الى كشف الانساق الثقافية الموجودة في الخطابات وتعريتها وكشف مثالبها .

وبما انه فعالية نقدية ونشاط فقد مارسه جبران خليل جبران دون ان يعي ذلك وعمل على كشف الانساق الثقافية القديمة الموجودة في الشعر العربي القديم وفضح عيوبها .

لقد وجدنا من الضروري ان ندرس شعر جبران خليل جبران لكونه يحمل انساقاً ثقافية تكشف العيوب النسقية الموجودة في الشعر العربي القديم .

ان الغاية التي يسعى اليها النقد الثقافي هي الحفر في النص للبحث عن الانساق المضمرة فيه وتبيان مساوئها .

تطور النقد الثقافي عن النقد الادبي الذي بقي ملتزماً بتقليديته بنقد النصوص وتحليلها واصدار الحكم النقدي عليها ضمن مصطلحات النقد الادبي المعروفة لكن النقد الثقافي ليس بديلاً عن النقد الادبي فالعلاقة بين النقد الثقافي والنقد الادبي علاقة تكامل لا علاقة تنافس ، فيمكن للنقد الثقافي الافادة من آليات النقد الادبي ليكشف الانساق الثقافية المختبئة خلف الجمالية .

اكتسب النقد الثقافي اليوم صفة الشمولية نظراً لدخوله في الميادين المعرفية والثقافية كافة .

اتبعنا في بحثنا المنهج الاستقرائي فقد اخترنا النصوص في ضوء ما تتطلبه حاجة البحث . وقسمنا البحث الى مبحثين تضمن المبحث الاول شكل قصائد جبران خليل جبران وتتمثل بالخروج على النسق الشعري القديم القائم على نظام الشطرين ، والتضمين العروضي ، والمزج بين البحور ، والتنويع بالقوافي ، وزحزحة النسق اللغوي القديم الذي يركن الى اللغة القاموسية .

وقد توجنا المبحثين باهم نتائج البحث ، ثم قائمة بالمصادر والمراجع التي افاد منها الباحث .

كان الادب العربي شعراً ونثراً في نهاية القرن التاسع عشر ، والربع الاول من القرن العشرين بهذه الفترة ظهر فيها جبران خليل جبران شاعراً وناثراً اما الشعراء العرب فكانوا يسيرون على تقليد الشعر القديم .([1]) اما جبران فقد خرج على الانساق الشعرية القديمة التي اخطتها الشعراء القدماء ، وعمل على زحزحة قدسيتها بخرقه لاغلب القواعد التي تمسكت بها تلك الانساق .

لقد تجلت جهود جبران في الخروج على الانساق القديمة للشعر العربي من خلال عدة امور منها :

المبحث الاول

شكل القصيدة في شعر جبران خليل جبران

استطاع جبران خليل جبران في كتاباته الشعرية أن يخرج على النسق الشعري القديم ، وقد تجلى هذا الخروج في كثير من المناحي الشعرية وأولها شكل القصيدة التقليدية العمودية التي تمتاز بصرامتها وجمودها فثار جبران وزملاؤه شعراء المهجر الشمالي على هذه القواعد ، والأصول الكلاسيكية التي رأوا فيها قيودا حاولوا الخروج منها .([2]) (( فقد راعهم أن يروا الشعر العربي متمسكا بنفس الشكل ، والأغراض التي تعود إلى العصور الخالية …)) ([3])

لقد استطاع جبران (( أن يعطي القصيدة العربية الحديثة شكلا جديدا بما أدخله عليها من تنويعات في القافية خاصة (…) ولعل جبران قد تأثر بفن الموشحات الأندلسية لا سيما أنه يشير إلى مثل هذا التأثر )) ([4]) . فهو يقول : ((ففي يوم من اواخر حزيران وقد ثقلت وطأة الحر في السواحل ، وطلب الناس أعالي الجبال سرت كعادتي نحو ذلك المعبد واعدا نفسي بلقاء سلمى كرامة حاملا بيدي كتابا من الموشحات الأندلسية التي كانت في ذلك العهد ، ولم تزل إلى الآن تستميل روحي)) ([5]). وهذا اعتراف صريح من جبران يظهر تأثره بالموشح الأندلسي ، ولكنّ جبران وزملاءه حاولوا (( أن يخطو خطوة تضاف إلى خطوة الأندلسيين وليس الاقتصار على التقيد بنظام الموشحات)) ([6]) . لقد إهتم جبران وزملاؤه شعراء الرابطة القلمية بالتجديد (( في أوزان الشعر وموسيقاه فيذكر أنهم قد استفادوا كثيرا من الآداب الغربية التي أطلعوا عليها ، واتصلوا بها اتصالا مباشرا فجاء شعرهم معبرا عن تجربة شعورية حقيقية ، وانفعال صادق جمعوا فيه بين قوة المعاني وصدق التعبير، وبراعة التصوير وبساطة الصياغة وموسيقيتها )) ([7]) .

فاعتبروا (( أنّ كل ميراثنا القديم ليس الا قيودا ثقيلة لحياتنا يجب الخلاص منها إذ لا سبيل إلى الارتقاء بهذه الحياة والنهوض بها إلا إذا حررناها من عبودية الماضي ، ونفضنا عن جبينها غباره وأوزاره ، واطلقنا سراحها من كل ما يربطها به من اسباب (…) فراحوا يلهبون ظهر الخليل وعروضه باسواط من نار…))([8]).

لقد استطاع جبران أنْ يحطم النسق الشعري القديم والمتمثل بعمود الشعر الذي يتمسك بشكل القصيدة القائم على نظام الصدر والعجز من خلال نظمه لأشكال شعرية تختلف بطول اشطرها وعدد تفعيلاتها ، كذلك نظمه القصيدة على شكل أسطر تنتظم عموديا وليس كما هو معتاد في القصيدة القديمة (شطر وعجز ) فعجز البيت يأتي تحت الشطر وليس إلى جانبه ، وربما أراد جبران في عمله هذا أن يحطم المركز وينتصر للهامش الذي تمثل بالموشح وبكل المحاولات الأخرى التي خرقت شكل القصيدة التقليدي ، وما فعله جبران جاء منسجما مع ما يصبو اليه النقد الثقافي في (( القضاء على مركزية النقد أو التصنيف المؤسساتي ، وذلك باحتفائه بالعوالم المهمشة التي تخلقها المعارضة والاختلاف مع الآخر (…) في مقابل المركز الذي أسس لنظرة متعالية خولت له خلق جو أدبي (…) مقصيا الأدوار الفاعلة التي تؤديها الأنواع الموازية أو المهمشة والتي حاولت خرق سلطة رسمية بفعل المغايرة سواء من ناحية الشكل ام ناحية المضمون ام الموضوع المطروح)) ([9]).

ومن الأشكال التي تتجلى فيها محاولات جبران في تغيير شكل القصيدة الشعري هي تلك القصائد التي نظمها على شكل الأشطر الشعرية المفردة وإنْ كانت تلتزم بنظام الشطرين إلا أنّه جعل أشطرها منتظمة في تواليها عموديا ، وكأنه أراد من خلال هذا الشكل أنْ يقوّض الشكل القديم المتحجر في إطار الأنساق الشعرية القديمة التي لا يحيد عنها الشاعر المتمسك بالشعر القديم وكانت سببا في إثقال الشاعر ومنعه من التعبير عن مشاعره بحرية كما في قصيدته (حرقة الشيوخ ) ولكنه لم يلتزم بنسق الموشح القديم ، بل كانت أقرب إلى شعر الرجز ، وكأنه يريد أن يمهد السبيل للشعر الذي يقوم على نظام الشطر الواحد ، وينهي الشكل الشعري القديم القائم على الشطرين المتجاورين وجبران خرق شكل الموشح القديم بحيث أن مطلع الموشح وقفله الذي يفترض أن يكتب على نظام الشطرين كتبه على نظام الشطر الواحد كما في قصيدته (حرقة الشيوخ) التي يقول جبران منها وهي من بحر الرمل :

يا زمانّ الحبِ ، قد ولّى الشـبابْ

وتوارى العمرُ كالظلِ الضـئيـلْ

وامّحى الماضي كسطرٍ من كتابْ

خطّهُ الوهمُ على الطرس البليـلْ

وغدت أيامُنــا قـيدَ العــذابْ

في وجـودٍ بالمســراتِ بخيـلْ

فالـذي تعشقـه يأســاً مضـى

والـذي نطـلبـه مـــلّ وراحْ

والـذي حزناه بالأمـسٍ مضـى

مثل حلمٍ بين ليـلٍ وصـــباحْ ([10])

والقصيدة طويلة والذي ذكرناه جزء منها وقد نُظمت على شكل يخرق جبران من خلالها شكل النسق الشعري القديم الذي يقوم على نظام الشطرين

ومن القصائد التي خرق فيها جبران النسق الشعري القديم القائم على نظام الشطرين (الصدر والعجز) قصيدته (البلاد المحجوبة) وهي من بحر الرمل يقول منها :

هو ذا الفجر فقومي ننصرفْ

عن ديار مالنا فيها صديـقْ

ما عسى يرجو نباتٌ يختلفْ

زهرُهُ عن كل وردٍ وشـقيقْ

وجديدُ القــلبِ أنّى يأتـلفْ

مع قلوبٍ كلُّ ما فيهـا عتيقْ

هو ذا الصبحُ ينادي فاسمعي

وهلميِ نقتفــي خطـواتِـهْ

قد كفـانا من مســاءٍ يدعي

أنّ نورَ الصبحِ من آياتــهْ ([11])

وفي قصيدة جبران (أغنية الليل ) أبدع شكلا آخر خرق فيه النسق الشعري القديم الذي يلتزم بنظام الشطرين ، والتفعيلات المتساوية في كليهما ، وفيها خرق جبران نظام القافية حيث التزم القافية في الصدر والعجز ، وحاول جبران أنْ يتلاعب في طول الشطر الشعري بحيث يكون الشطر الأول ملتزما بالتفعيلات الشعرية المعروفة في النسق الشعري القديم ، أما الشطر الثاني أو عجز البيت فعمل جبران كتابته من تفعيلة واحدة ، ويكون جبران في عمله هذا قد فتح أذهان الشعراء ليدركوا النسق الشعري الجديد الذي يدعو إليه ، وكذلك عمل من خلاله على تحطيم النسق الشعري القديم الذي اعتاد الشعراء القدامى والمحدثون التمسك به ، كذلك نظمها على بحر صاف وهو الرمل ينظم فيه شعر التفعيلة ، وبلغة سهلة ، ومأنوسة وبهذا يتفق جبران مع ما يسعى إليه النقد الثقافي الذي ينسف الأنساق الشعرية القديمة (( دون المبالاة بما يقوله النقد الأدبي فيها ، لأنّ النقد الأدبي يعبّر عن وجهة نظر رسمية أو مؤسساتية تقوم على تقديس نوع أو أنواع من النتاج الثقافي وتهمل نوعا أو أنواعا أخرى )) ([12]) لذا فقد حطّم جبران هذه القداسة من خلال خرقه لقوانينها التي تشترط أنْ يكون البيت الشعري متوازنا في شطره وعجزه .

يقول جبران من قصيدته (أغنية الليل) :-

سكن الليلُ وفي ثوبِ السكونْ تختبئ الأحلامْ

وسعى البدرُ وللبدرِ عيونْ ترصدُ الأيـامْ

فتعالي يا ابنةَ الحقلِ نزورْ كرمةَ العشاقْ

علّنا نطفي بذياك العصيرْ حرقةَ الأشـواقْ

اسمعي البلبلَ ما بينَ الحقول يسكبُ الألحانْ

في فضاءٍ نفختْ فيهِ التلول نسمةَ الريحانْ ([13])

نظم جبران معظم قصائده على الشكل الشعري المقطعي (فالنسبة المئوية لهذا القالب في قصائد جبران (…) تزيد على 90% …)) ([14]) . وقد استخدم ((هذا المصطلح هنا للدلالة على الشكل الشعري الذي يقوم على نظام المقطوعات في الشعر الإنجليزي ، وعلى أشكال المسمط ، والموشح ، والزجل في العربية)) .([15]) والاصل في الشعر المقطعي (( خاص باللغة الفرنسية (…) فاللغة الفرنسية (…) تطور للغة اللاتينية ، ولقد كانت اللغة اللاتينية لغة كمية تتميّز مقاطعها بعضها عن بعض بالطول والقصر (…) فكل لفظة لاتينية كانت في العادة تحمل ارتكازا على المقطع السابق للأخير …)) ([16]) ويتضح لنا أنّ جبران متأثر بالنسق الشعري الأوربي من خلال ابتكاره للشعر المقطعي . كما أنّ (( للترجمة العربية للأنجيل والترجمة العربية للترانيم البرونتستانية تأثير على نفر من هؤلاء الشعراء (…) في اقتباس نظام القافية المقطعية )) .([17])

يتكون الشعر المقطعي كما نلاحظ ذلك في قصائد جبران من مقاطع وكل مقطع يلتزم بقافية واحدة ، ويعقبه مقطع آخر يلتزم بقافية أخرى بينما كانت القصائد في النسق الشعري القديم تلتزم بقافية واحدة ، كذلك جعل جبران كل مقطع يعبر عن معنى معين يختلف عن المعنى الذي يليه وعن المعنى الذي يسبقه وبهذا تكون قصيدة جبران تعّبر عن مجموعة من المعاني لكنها ترتبط بالفكرة العامة أو يشدها خيط بالفكرة العامة التي اراد جبران أنْ يوصلها للمتلقي ، وإن مثل هذه الموضوعات المتنوعة موجودة في الأنساق الشعرية القديمة كما هو الحال في القصيدة الجاهلية حيث تبدأ القصيدة باللوحة ، ثم الطلل ، وبعده المدح ، أو الهجاء لكن الشيء الجديد الذي جاء به جبران هو تغيير القافية بينما الأنساق القديمة تلتزم بقافية موحدة .

ثانيا :- ومن الأشكال الأخرى التي خرق فيها جبران النسق الشعري القديم التضمين العروضي و(( هو انسياب المعنى من شطر شعري إلى السطر الذي يليه، أو تجاوز المعنى (الشكل النحوي) لنهاية البيت في قصيدة إلى بداية البيت التالي ويسمى في العربية التضمين أو التتميم ويعد عيبا كبيرا من عيوب النظم))([18]). وسمي تضمينا بمعنى ( الأيداع فكأن الشاعر أودع تمام معنى البيت الأول في الثاني وضمّنه إياه )) ([19]) . ويعد عيبا من عيوب الشعر في النسق الشعري القديم ومثال ذلك قول إمرئ القيس في وصفه الليل من معلقته من البحر الطويل :-

فقلتُ له لمّا تمطى بصلبهِ واردفَ اعجازاً وناءَ بكلكلِ

الا ايّها الليلُ الطويل الا انجلِ بصبحٍ وما الأصباحُ منكَ بأمثلِ ([20])

وهذا عيب يلام عليه الشعراء القدامى لأنّ من الأسس الجمالية في النسق الشعري القديم أنْ يستقل البيت في معناه لكنّ جبران كسر النسق الشعري القديم ، وخرق نظامه في موضوع التضمين العروضي الذي حوّله إلى فضيلة ترفع من شأن القصيدة لأنها تحقق لها الوحدة العضوية (( بحيث تكون القصيدة عملا فنيا تاما يكمل فيها تصوير خواطر متجانسة ، فاذا دخلت فكرة غريبة أخلت بوحدتها ، وتذبذبت معالمها )) .([21]) بينما كانت أبيات القصيدة في النسق الشعري القديم تتمتع بوحدة معنوية مستقلة ، لكن جبران جعل القصيدة تدور حول موضوع واحد ، وكل بيت من أبياتها يرتبط بمعناه بالبيت الذي يليه وكان له الفضل في ابداع هذا النسق الشعري الجديد الذي اعتنقته بعده كل المدارس الشعرية التي تدعو إلى الحداثة الشعرية . مثل جماعة الديوان ، ومدرسة أبولو ، ومدرسة الشعر الحر ، وجبران في عمله هذا جعل المهمش (التضمين) من عيب إلى فضيلة ، وهذا ما يدعو اليه النقد الثقافي في أيامنا هذه . فيقول ادورد سعيد (( إنّ على الناقد أنْ يحول التعارض بين النظام ممثلا في النقد التقليدي والثقافة إلى تجانس يخدم الممارسة النقدية عبر استعداد الناقد لمساءلة الخطاب النقدي ذاته مع انفتاحه على النصوص والكتابات المهمشة واحضاره إلى المتن الثقافي …)) ([22]) وبهذا تزال الحدود والفواصل بين الثقافة العليا والثقافة المهمشة فالتضمين العروضي يتنافى مع النقد المؤسساتي حيث جعل الهامش هو السائد .

يقول جبران من قصيدته (الجبار الرئبال) مكثرا فيها من التضمين العروضي ، ومحطّما فيها النسق الشعري القديم وهي من بحر الرمل :-

في ظلامِ الليلِ يمشي مبطئاً

وهو مثلَ الليلِ هولا قد بدأ

وحده يمشي كأنّ الأرضَ لـم

تبرُ إلاهْ عظيــما سيـــدا

ويدوسُ التربَ مرفوعــا كما

تلمس الأطلالَ أطرافُ السحابْ

فكــأنّ الجســمَ في أثوابِـه

من شعاعٍ وسديــمٍ وضبـابْ

قلتُ : يا طيفاً يعيــقُ الليلَ في

سيرهِ ، هل انتَ جنٌ أم بشـرْ ؟

قال : مغـتاظاً وفي الفاظــهِ

رنّةُ الهزءِ : أنا ظــلُّ القدرْ ([23])

انّ هذه القصيدة هي في حقيقتها قصة تقوم على سرد حكاية كذلك تتخلخلها كل عناصر القصة من حدث وشخصيات وحبكة وحوار ، والشيء الملفت للنظر أن الشطر الشعري لا يستقل بالمعنى بل يعتمد على الشطر الذي يليه والشطر الذي يليه يعتمد في معناه على الشطر الذي يليه ، وهكذا تكون القصيدة من بدايتها إلى نهايتها متواصلة معنوياً وهذا ما يسمى بظاهرة (التضمين العروضي) حيث أن المعنى لا يكتمل في البيت بل يكتمل في البيت الذي يليه ، وقد كان عيبا في الشعر القديم ، ولكنه أصبح ابداعا في الشعر الحديث فجبران أرسى هذا النسق الشعري الجديد وحطمّ النسق الشعري القديم الذي لا يبيح للشاعر ذلك .

ثالثا :- المزج بين البحور : ومن المحاولات التي خرق فيها جبران وزملاؤه شعراء المهجر النسق الشعري القديم هو اتجاههم إلى المزج بين البحور . ويرى د. عبد الحكيم بلبع (( أنّ الجمع بين بحرين مختلفين في القصيدة الواحدة يعد ضربا من الرغبة الملحة دائما في الخروج عن المألوف)) ([24]) . وقد سميت محاولتهم ب(( مجمع البحور وملتقى الأوزان)) .([25]) وكان من الطبيعي أنْ يتمرد جبران الرومانسي ومعه شعراء المهجر على القواعد والأصول الكلاسيكية التي رأوا فيها قيودا حاولوا الخروج عليها ونزع القدسية منها([26]) . فالجمع بين أكثر من بحر واحد في القصيدة يعد تحطيما للنسق الشعري القديم ليمهد (( الطريق أمام الشعر الحر في الأدب العربي الحديث)) .([27])

يقول جبران في قصيدته (المواكب) وقد نظمها بالشكل الشعري المقطعي وقد مزج فيها بين البحر البسيط ومجزوء الرمل فقال من البسيط :

وما الحــياةُ سـوى نومٍ تـراودُهُ أحلامُ من بمــرادِ النفسِ يأتمرُ

والسّرُ في النفسِ حزنُ النفسِ يسترهُ فإنْ تولّـى فبالأفراحِ يستتــرُ

والسرُ في العيشِ رغدُ العيشِ يحجبهُ فإن أزيلَ تولّى حجبـهُ الكــدرُ

فإنْ ترفعتَ عن رغدٍ وعن كــدرٍ جاوزتَ ظلّ الذي حارتْ به الفكرُ

.***

وقال من مجزوء الرمل

ليس في الغاباتِ حزنٌ لا ولا فيها الهمومْ

فــإذا هبَ نسيــمٌ لم تجئْ معهُ السمومْ

وغيومُ النفــسِ تبـدو من ثناياها النجومْ ([28])

رابعا : التنويع بالقوافي :- عمل جبران في التلاعب بالقوافي في نظمه للشعر المقطعي الذي يكون في كل مقطع يقوم على قافية معينة ، وكذلك في نظمه للاشكال الشعرية التي تشبه الموشح وبهذا يكون جبران قد مهد السبيل أمام الأجيال الشعرية اللاحقة إلى أنْ تكتب شعرا مرسلا ، وشعرا حرا ، وشعرا طليقا. إذاً عمل جبران على خرق النسق الشعري القديم الذي يقوم على التزام قافية واحدة من أول بيت في القصيدة إلى آخرها . وبدأ جبران ينوع بالقوافي من خلال الشعر المقطعي وفقا لما تتطلبه الدفقة الشعرية في القصيدة .

يقول ميخائيل نعيمة : (( إنّ القافية العربية السائدة إلى اليوم ليست سوى قيد من حديد يربط قرائح شعرائنا ، وقد حان تحطيمه من زمان )) ([29]) . وقد مال جبران وزملاؤه شعراء المهجر الشمالي إلى تحطيم النسق الشعري القديم في القصيدة العربية التقليدية المبني على التمسك بالقافية فقد (( بدأ جبران القصيدة على وزن معين وقافية معينة ، ولكن ما يكاد ينشىء هذه القافية التي بدأها ببيتين أو ثلاثة من الأبيات على قافية مخالفة ، وقد يستمر في التغيير والتبديل )) ([30]) . إلى نهاية القصيدة أو المقطوعة .

استطاع جبران أنْ يعطي القصيدة العربية الحديثة نسقا جديدا ، فهو لم يبنِ قصائده على النسق الشعري القديم الذي تبنى من خلاله القصائد التقليدية فجبران (( مولع بتغيير القافية)) ([31]) فهو يسعى الى أنْ (( يجعل القافية تتوحد في كل ثلاثة أبيات ، ثم في كل بيتين )) ([32]) ولا يلتزم روياً محددا فيها وهذا التنويع بالقوافي والتوزيع فيها ناجم من خلال تأثر جبران وزملائه شعراء الرابطة القلمية بالموشحات ، فضلا عن تأثرهم بالنظام الغربي (الفرنسي والإنكليزي) أو خضوعهم لرغباته الخاصة ([33]) .

لقد مال جبران إلى القافية المزدوجة في كل مقطع ، وكان يهدف إلى نسف النسق الشعري القديم الذي تبنى من خلاله القصيدة على قافية واحدة من بدايتها إلى نهايتها . يقول جبران من قصيدته (الجبار الرئبال) وهي من بحر الرمل :-

قلتُ : لا فالحبُ زهرٌ لا يعيش

بعدَ أنْ تذبلَ أزهارُ الربيعْ

قال : غضباناً وفي لهجتهِ

ضجةُ البحرِ : أنا الموتُ المريعْ

قلتُ : لا فالموتُ صبحٌ إنْ أتـى

أيقـظَ النائـــمَ من غفلتــهْ

قال مختــالاً : أنا المجدُ فَمنْ

لم يــنلي ماتَ في علــتهْ ([34])

ويقول جبران في قصيدته (الشحرور) وهي من الشعر المقطعي ، القوافي فيه متغيّرة في كل بيتين أو ثلاثة أبيات وهي من جزوء الرمل

أيها الشحرورُ غرّدْ فالغنا سرُّ الوجودْ

لَيتني مثلُــكَ حرٌ من شجونٍ وقيـودْ

ليتني مثلُكَ روحـاً في فضا الوادي أطيرْ

اشربُ النورَ مداما في كؤوسٍ من أثيـرْ

ليتني مثلُكَ طهـرا وامتـناعا ورضـى

معرضا عما سيأتي غافلا عما مــضى

ليتني مثلُكَ ظرفـاً وجمــالا وبــها ([35])

خامسا : لغة الحياة اليومية : سعى جبران الى تحطيم النسق اللغوي القديم الذي يركن إلى اللغة القاموسية في الشعر والنثر ، فاللغة القاموسية في نظر جبران وزملائه شعراء الرابطة القلمية تمتاز بصعوبتها فضلا عن كثرة استعمال ألفاظها التي ملّت منها الألسن ونفرت منها الآذان لصعوبتها وكونها لا تفي بمتطلبات العصر ورغبة الشاعر المهجري وما يريد أنْ يبوح به في شعره . يقول جبران :

(( لكم لغتكم ولي لغتي (…) لكم منها القواميس والمعجمات والمطولات ، ولي منها ما غربلته الأذن وحفظته الذاكرة من كلام مألوف مأنوس تتداوله السنة الناس في افراحهم واحزانهم …)) ([36]) . يعلن جبران تمرده على النسق اللغوي القديم هو وزملاؤه شعراء الرابطة القلمية ، فاللغة التي يبغونها (( ليس فيها زخرف ، ولاوشي ، ولا أي شيء يحول بيننا وبين المعنى )) ([37]) لذا فقد عملوا ((على تحرير اللغة من قيود الشكلية وتجديد الأساليب دون الخروج على قواعد اللغة)) .([38]) فقد كان جبران (( يصطفي من اللفظ أقربه وأخصبه حلاوة ، وينتفي كل حوشي ، ويتنكب عن كل غريب )) ([39]) . ومن سخطه على النسق اللغوي القديم يقول : (( إنّ عجز الطرق القديمة عن التعبير عن أشيائي الجديدة جعلني دائب السعي وراء وسائل تعبير جديدة …)) ([40]) . فلغة جبران التي يريد أن يعبر بها هي لغة الحياة اليومية فقد اقتربت لغة جبران من لغة الحياة اليومية . وهذا ناجم من خلال تأثر جبران وزملائه شعراء المهجر الشمالي بدعوة وردزورث في استخدامه للغة الحياة اليومية ([41]) . وقد نوّه جبران بذلك في مقالته (مستقبل اللغة العربية) : (( .. و المبتكر مؤثر فلما كان الشرقيون سابقين ، والغربيون لاحقين كان لمدنيتنا التأثر العظيم في لغاتهم ، وها قد أصبحوا هم السابقين وامسينا نحن اللاحقين فصارت مدنيتهم بحكم الطبع ذات تأثر عظيم في لغتنا وأفكارنا وأخلاقنا)) ([42]) فضلاً عن تأثر جبران (( إلى حد كبير بمصدر معرفي شمولي هو الكتاب المقدس))([43]) . لقد وظّف جبران لغة الحياة اليومية في شعره ونثره لكن هذه المحاولة تصدى لها بالنقد عدد من الكتاب منهم عزيز اباظة وآخرين ([44]) فقد وقفوا موقف الرفض لكلمة (تحممت) التي ذكرها في بيته الشعري :

هل تحممتَ بعطرٍ وتنشفتَ بنورْ([45])

وقد انبرى ميخائيل نعيمة مدافعاً عن جبران باستعماله للفظة (تحممت) ساخراً من رأي ناقديه بقوله : (( واولئك يتوسدون القواميس ويتلون عليها صلواته، ويحرقون امامها بخور قلوبهم ، وزيوت ادمغتهم ، أولئك هم ضفادع الادب)) ([46]). يتضح لنا ان ميخائل نعيمة كزميله جبران ميال إلى لغة الحياة اليومية ومثلهما كل شعراء المهجر الشمالي فجبران المتمرد على كل شيء انعكس تمرده حتى على اللغة فلغة جبران ليست صعبة أو قاموسية أو غريبة وانما تتضمن كلمات مألوفة مأنوسة يحس بها الناس ويعرفونها في حياتهم اليومية لذا فقد سمّى د. محمد مندور لغة شعر جبران وزملائه شعراء الرابطة القلمية بالأدب المهموس فيقول: ((الهمس في الشعر ليس معناه الضعف ، فالشاعر القوي هو الذي يهمس فتحس صوته خارجاً من أعماق نفسه في نغمات حارة ، ولكنه غير الخطابة التي تغلب على شعرنا فتفسده ، إذ تبعد به عن النفس ،عن الصدق ، عن الدنو من القلوب . الهمس ليس معناه الارتجال (…) وانما هو احساس بتأثير عناصر اللغة ، واستخدام تلك العناصر في تحريك النفوس وشفائها …)) ([47])

المبحث الثاني

مضمون القصيدة في شعر جبران خليل جبران

  1. المرأة والحب والغزل : هنا نسق شعري جديد جاء على انقاض النسق الشعري القديم الذي هيمن على الشعر العربي المتمثل بشعر الغزل ولا سيما الغزل الحسي الذي يعني بتصوير مفاتن المرأة الحسية ، ويبغي إشباع غرائز الشاعر الجنسية من المرأة ، وينظر هذا النوع من الغزل إلى المرأة على أنها أداة لهو وتسلية فيحط من مكانتها ، ويسيء الظن بها ، ويعمل على الإساءة لها ، أما الحب الذي جاء به جبران فهو حب رومانسي يجلُّ المرأة ، ويقدسها ويرى فيها ملاكا هبط عليه من السماء لأجل أنْ يبدد الوحشة التي تفتك به في حياته . وجبران في دعوته للحب الرومانسي عمل على إحياء المهمش المتمثل بالحب العذري الذي نشأ في شعرنا العربي منذ العصر الجاهلي ([48]) . وازدهر في العصر الأموي ثم اضمحل بعد ذلك وظل هامشيا حتى عمل جبران وزملاؤه من الشعراء الرومانسيين على إحيائه ، وتحطيم الغزل الحسي الذي رأوا فيه ليس شعرا ، ولا ينم عن ذوق سليم ، ولا ينسجم مع روح العصر وما أرسته الحضارة الجديدة من قيم تتنافى مع ما يدعو له الغزل الذي هو أكثر اقترانا بالحياة البدائية فهو يمثل الشهوات الحيوانية ، ويقف عند حدودها ، ولا يسمو إلى عالم الروح والمشاعر . ودعوة جبران هذه فيها تنديد بالغزل الحسي وتمرد على النسق القديم الذي جعله مهيمنا على الشعر ، ويحمل نسقا مضمرا يتمثل بتلك الرؤية الاوربية إلى العرب الشرقيين بشكل عام أنّهم أقوام ما زالوا يحملون عقلية بدائية غير مؤهلة لدخول عالم الحضارة الجديدة حيث ما زالت نزعاتهم تقف عند حدود الحواس ، لذلك كان شعرهم العربي يعني بتصوير المفاتن الحسية من جمال العيون ، والخدود ، ورشاقة القد ، والخصر ، واكتناز الأفخاذ ، أما جبران وأقرانه من الرومانسيين لا يعدون شعر الغزل شعرا وقد دلّ على ذلك بيت جبران الذي يقوله :

والحبُ إنْ قادت الأجسامُ موكبَهُ إلى فراشٍ من الأغراضِ ينتحرُ ([49])

فالرومانسيون وعلى رأسهم جبران جعلوا (( المرأة المثال الذي يتكامل به الوجود ، حيث تنفث الحب في النفوس فيغدو لها منفذا روحيا إلى الحرية التي يحلمون بها ويتطلعون اليها )) ([50]) . أما حب جبران وزملائه الرومانسيين فهو (( حب مثالي بعيد المنال طويل الطريق ، ضعيف التحقيق ، لأنهم لم يطلبوه على الأرض ، بل ارتفعوا به عن كل ما يدنسه فسما بذلك عن الابتذال )) ([51]) فالحب عند جبران حب روحي متحرر من كل قيد ، لا يشوبه غرض ، بعيد عن المادة.

  1. وصف الطبيعة : هنا نسق شعري جديد في المضمون حيث حطّم النسق السائد في الشعر العربي القديم هو وصف الطبيعة من الخارج ، والاتيان بنسق جديد يمثل رؤية الرومانسيين للطبيعة ، فهم يخلعون شيئا من مشاعرهم على الطبيعة ، ويقدسونها ويرون فيها الأم الرؤوم التي تحتضنهم ، وملاذا آمنا لهم من عنت الحياة (( … فالطبيعة هي الصورة المقابلة للحياة المدنية المادية بضجيجها وصخبها ، وما فيها من جشع وأنانية طمست معها صفاء النفس وصدقها )) ([52]) . لذا نجد جبران في شعره يميل إلى الطبيعة التي عبّر عنها بالغاب وهو العالم الفطري الذي حلم به جبران واختاره بعد أنْ ضاق ذرعا بعالم المدينة ، والحضارة الجديدة فهو على شاكلة الرومانسيين متمرد على واقعه لذلك ذهب به الخيال بعيدا بحيث اعتقد أنّ هنالك حياة أخرى حجبتها الأستار عنه ، وحاول أنْ يفك هذه الاستار التي حجبته عن عالمه الغائب الذي هو في الحقيقة من صنع خياله الذي حاول جبران أنْ يجد فيه كل ما افتقده في عالمه الواقعي .لقد كانت ( ( العودة إلى الطبيعة في لغة المهجريين حملت معنى طلب الحرية والثورة على التناقضات ، والقيود ، والمؤسسات الاجتماعية ، والدينية ، والاقتصادية ، والأدبية . فكانت الطبيعة نقيضا لكل ما وجدوا فيه انتهاكا لحرية الإنسان )) ([53]) . واندماج جبران وزملائه شعراء المهجر وميلهم إلى الغاب ناجم عن تأثرهم بـ(( الرومانسية الغربية التي راحت تمجده وتلتجئ اليه كمكان أمين تنشد في رحابه الراحة والابتعاد عن عالم المتناقضات لا سيما ان الشعر الامريكي في متناوله وغير بعيد عنه الا ان ما يسجل لجبران في هذا المجال هو فضل السبق في التأثر بهذا الجانب))([54] ). لقد هرب جبران وزملاؤه شعراء المهجر الشمالي إلى الطبيعة واعتبروها الام الرؤوم ليتخلصوا من الحياة المادية الموجودة في المدينة وصخبها فوجدوا الطبيعة ملاذاً آمناً (( ينقذهم من القوانين الاجتماعية الجائرة ))([55]) الموجودة في المدينة يقول جبران من قصيدته (المواكب) من مجزوء الرمل : ليس في الغاباتِ راعٍ لا ولا فيها القطيعْ

فالشتا يمشي ولكنْ لا يجـاريهِ الربيـعْ

خلقَ الناسُ عبيدا للذي يأبـى الخضوعْ

فإذا ما هبًّ يوما سائرا سـار الجميـعْ

***

أعطني الناي وغنِّ فالغنا يرعى العقولْ

وأنينُ النـاي أبقـى من مجيدٍ وذليـلْ ([56])

  1. التأمل في النفس الإنسانية والكون : شعر التأمل الذي جاء به جبران جاء به ليضرب النسق الشعري القديم الذي يدعو إلى أنْ يكون الشعر قريب المأخذ يخلو من الغموض فضلا أنّه يحمل نسقا مضمرا فيه توبيخ للشاعر العربي القديم الذي عرف عنه بتناوله موضوعات لا تبيح له التعمق في جوهر الأشياء واكتشاف اسرارها بل يقف دائما عند حدود مظاهر الأشياء، فكان شعرهم في اغلبيته الساحقة يتسم بالسذاجة ، والبساطة المفرطة ، وهنا توبيخ للعقلية العربية التي ينقصها التأمل .

تأمل جبران في النفس الإنسانية وحاول أنْ يتعمق فيها من أجل أنْ يكشف اسرارها ، ويعرف أبعادها والموضوعات هذه هي صورة لما كان يضطرب فيه الشعراء الرومانسيون ومنهم جبران الذين عبّروا عن أزمتهم وعدم رضاهم عن الحياة التي عاشوا فيها بالمهجر فدفعهم ذلك إلى التأمل في النفس وأسرارها ومعرفة الكثير من الأسئلة التي كانت تدور في ذهن جبران وغيره من شعراء الرومانسية ، وعن موضوع الروح والجسد ومصير الإنسان ونظرية وحدة الوجود أوجد جبران نسقا جديدا في الشعر من خلال المضمون ((حيث يقف في مقدمة الشعراء الذين تطرقوا في شعرهم إلى خلود النفس )) ([57]) فاتجه جبران وزملاؤه من شعراء الرومانسية (( يضربون في أعماق النفس الإنسانية مضارب شتى ، ويقفون منها مواقف مختلفة ، وسعوا إلى أنْ يجعلوا للشعر وظيفة استكناه النفس الإنسانية بعد أنْ كانت تبتعد عن هذا الميدان )) ([58]) في النسق الشعري القديم . ولعلَ اهتمام جبران وشعراء الرومانسية جميعهم بالنفس لأنّها أقرب الأشياء إلى الإنسان وهي متصلة به ولكنها شديدة الغموض . بالرغم من الجهود التي بذلها الفلاسفة حولها لكنهم لم يتوصلوا إلى حقيقة النفس الإنسانية .([59])

ومن الأسباب التي جعلت جبران وغيره من شعراء الرومانسية يتأملون في نفوسهم شعورهم بالغربة ، والوحدة ، وافتقاد الأهل والصديق ، والأليف ، والحبيب لذا فهم لا يجدون الذين يبثون لهم شكواهم فينصرفون إلى نفوسهم يخاطبونها ويشكون لها آلامهم وعذاباتهم في غربتهم .([60])

يتحدث جبران عن خلود نفسه فيقول من قصيدة له بعنوان (يا نفس) من بحر الرجز

يا نفسُ ما العيشُ سوى ليلٍ اذا جنَّ انتهى

بالفجرِ والفجرُ يدومْ

وفي ظمأ قلبي دليلْ على وجود السلسبيلْ

في جنةِ الموتِ الرحومْ

يا نفسُ أنْ قال الجهولْ النفسُ كالجسمِ تزولْ

وما يزولُ لا يعودْ

قولي له إنّ الزهور تمضي ولكنّ البذورْ

تبقى وذا كنه الوجودْ ([61])

يفصل جبران في النص الشعري بين النفس والجسم فهي من طبيعة غير طبيعته ، فهو يؤمن بخلود النفس بعد فناء الجسم ومواراته التراب ، فهي باقية بعد الموت ([62]) . فجبران (( يطمع في الخلد دائما ولا يهمه ما في الحياة من غرض زائل ما زالت نفسه مصيرها الخلود والبقاء)) ([63]) فهو وزملاؤه اعضاء الرابطة القلمية (( يعتقدون جادين انّ النفس ((تعيش في العالم السفلي ، عالم المادة والفناء، فدخلت في الجسد ، والجسد فانٍ كما تقول الكتب السماوية ولكن الروح خالدة ، فهي ستغادره وتعود إلى عالمها الذي هبطت منه حيث تتمتع هناك بالخلود)) ([64]) . وهذا ناجم من خلال إيمان جبران وزملائه بنظرية التقمص أي استمرارية الحياة وخلود الإنسان .

وتأمل جبران في الكون وقصيدة البلاد المحجوبة هي (( صورة كاملة ودقيقة لتلك النزعة التأملية المستغرقة في قضايا الحياة والكون ، والمتعاطفة مع آلام الإنسان واحزانه ، والباحثة له في مرافئ السعادة التي يجد عندها راحة النفس وطمأنينة الضمير . يقول جبران متحدثا مع نفسه يدعوها إلى الهروب من عالمه الواقعي إلى عالم خيالي يحلم به والقصيدة من بحر الرمل يقول جبران منها :-

هو ذا الفجرُ فقومي ننصرفْ

عن ديارٍ مالنا فيها صديـقْ

ما عسى يرجو نباتٌ يختلفْ

زهرُهُ عن كل وردٍ وشقيـقْ

وجديدُ القـلبِ اني يأتــلفْ

مع قلوبٍ كلُّ ما فيها عتيـقْ

يا بـلادا حجـبت منذ الأزلْ

كيف نرجوك ومن أين السبيلْ

أيّ قفـر دونـها أيّ جــبلْ

سورها العالي ومن أين الدليلْ

أسرابٌ انتِ أم انتٍ الأمــلْ

في نفوسٍ تتمنى المستحيلْ ([65])

وهذه القصيدة تبين (( أنّ المحور الأساسي لتلك النزعة التأملية الفلسفية في شعرهم هو الأهتمام بقضايا الإنسان ، والبحث عن كل ما يحقق له الأمن والسعادة ولو عن طريق الحلم بعالم خير مثالي ، اذا لم يجد الإنسان سبيلا إلى تحقيقه والوصول اليه في واقعه فلا أقل من انْ يلتمسه داخل نفسه ، فهي المصدر الحقيقي لكل سعادة ينشدها ، وكل طمأنينة يهفو اليها )) ([66])

نستخلص مما سبق ذكره ان جبران خرق شكل القصيدة العربية الكلاسيكية واستطاع تحطيم النسق الكلاسيكي القديم المتمثل بعمود الشعر من خلال ما ابدعه من شعر فقد نظم الشعر المقطعي ، وجعل التضمين العروضي فضيلة وكان محظوراً في الشعر العربي القديم ، وتلاعب في اطوال الاشطر ، واعتمد لغة الحياة اليومية السهلة المأنوسة متجاوزاً اللغة الفخمة والجزلة التي تمسك بها القدماء .

هوامش البحث :

  1. () ظ : قيم جديدة للادب العربي القديم والمعاصر ، ج2 ، عائشة عبد الرحمن ، معهد البحوث والدراسات العربية ، القاهرة ، 1966 ، :203.
  2. () ظ : الرومانطيقية ومعالمها في الشعر العربي الحديث ، عيسى يوسف بلاطة ، دار الثقافة ، مطابع سميا
    ، بيروت ، 1959 : 8 – 9
  3. () موازنة بين شعراء المهجر الشمالي وجماعة أبولو ، دراسة في الخصائص الفنية والموضوعية ، د. جمعة بو بعيو ، منشورات مطبعة قايونس ، ط1 بنغازي ، 1995 : 415
  4. () م . ن : 417
  5. () موسوعة جبران خليل جبران العربية ، شرح د. درويش الجويري ، الدار النموذجية للطباعة والنشر ، صيدا ، بيروت ، 2012 : 192
  6. () موازنة بين شعراء المهجر الشمالي وجماعة أبولو : 418
  7. () أدب المهجر ، عيسى الناعوري ، مطبعة السفير ، عمان ، الاردن ، 2011 : 244 – 245
  8. () حركة التجديد الشعري في المهجر بين النظرية والتطبيق ، د. عبد الحكيم بلبع ، الهيئة المصرية العامة للكتاب ، 1980 : 115
  9. () تعارضات المركز والهامش في الفكر المعاصر ، عبد الله ابراهيم انموذجا ، غزلان هاشمي ، دار بيبور للطباعة والنشر والتوزيع ، ط1 ، العراق ، بغداد ، شارع المتنبي ، ديوانية شارع الرياضة ، 2014 : 24
  10. () موسوعة جبران خليل جبران العربية : 550
  11. () موسوعة جبران خليل جبران العربية : 548
  12. (1) العالم والنص والناقد ، ادورد سعيد ، منمشورات اتحاد الكتاب العرب ، 2000 : 24
  13. () موسوعة جبران خليل جبران العربية : 553
  14. () الشعر العربي الحديث 1800 – 1970 – تطور أشكاله وموضوعاته بتأثير الأدب الغربي ، س . مورية ، ترجمه وعلق عليه ، د. شفيع السيد ، سعد مصلوخ ، دار غريب للطباعة والنشر والتوزيع ، ط2 ، القاهرة ، 2012 : 159
  15. () م . ن : 459
  16. () في الميزان الجديد ، محمد مندور ، نشر وتوزيع مؤسسات (ع) بن عبد الله، ط1 ، تونس ، 1988 : 255
  17. () الشعر العربي الحديث 1800-1970 تطور أشكاله وموضوعاته بتأثير الأدب الغربي : 136
  18. () م.ن : 455
  19. () موسيقى الشعر العربي ، د . عيسى علي العاكوب ، دار الفكر المعاصر ، دمشق ، سوريا ، بيروت ، لبنان ، ط1 ، 1997 : 232
  20. () المعلقات العشر ، دراسة ونصوص ، تقديم : بولس سلامة ، الشركة اللبنانية للكتاب ، بيروت ، لبنان ، 1969 : 34
  21. () الموقف النقدي من الشعر المهجري ، د. سهير صالح ابو الجود ، مكتبة عدنان ، طبع نشر وتوزيع ، ط1 ، شارع المتنبي ، بغداد ، 2012 : 56
  22. () العالم والنص والناقد: 87 – 88
  23. () موسوعة جبران خليل جبران العربية : 414
  24. () حركة التجديد الشعري في المهجر بين النظرية والتطبيق : 326
  25. () تطور القصيدة الغنائية في الشعر العربي الحديث 1881-1938 ، د. حسن احمد الكبير ، دار الفكر العربي ، الكويت ، 1978 : 445
  26. () ظ : الرومانطيقية ومعالمها في الشعر العربي الحديث : 8-9
  27. () الشعر العربي الحديث (1800-1900) تطور أشكاله وموضوعاته بتأثير الأدب الغربي : 157
  28. () موسوعة جبران خليل جبران العربية : 330-331
  29. () الغربال ، ميخائيل نعيمه ، ط5 ، دار المعارف ، مصر ، 1957 : 70
  30. () شعراء الرابطة القلمية . دراسات في شعر المهجر ، د. نادرة جميل سراج ، دار المعارف ، ط3 ، القاهرة ، ج.ع.م ، 1989 : 235
  31. () موازنة بين شعراء المهجر الشمالي وجماعة أبو لو ، دراسة في الخصائص الموضوعية والفنية : 418
  32. () م . ن : 419
  33. () ظ : تطور القصيدة الغنائية في الشعر العربي الحديث (1881-1938) : 456
  34. () موسوعة جبران خليل جبران العربية : 557-558
  35. () م.ن : 556
  36. () روائع جبران خليل جبران ، دار الجيل ، د. ثروت عكاشة ، الهيئة المصرية العامة للكتاب ، ط5 ، د.ت :161
  37. () دراسات في الشعر العربي المعاصر، د . شوقي ضيف ، دار المعارف ، ط5 ، مصر ، 1969: 252
  38. () روائع جبران خليل جبران : 34
  39. () ملامح الأدب العربي الحديث ، انطوان غطاس كرم ، دار النهار للنشر ، بيروت ، 1980 : 50
  40. () اضواء جديدة على جبران ، توفيق صايغ ، دراسة ادبية ، منشورات الدار الشرقية للطباعة والنشر ، بيروت ، لبنان ، 1966: 231
  41. () ظ : لغة الشعر المهجري ، اطروحة دكتوراه ، علية جاسم النجار ، كلية الاداب ، جامعة بغداد ، كلية الاداب ، 1997 : 213
  42. () موسوعة جبران خليل جبران : 517
  43. ( ) الاتجاهات والحركات في الشعر العربي الحديث ، د. سلمى الخضراء الجيوسي ، تر : د. عبد الواحد لؤلؤة ، مركز دراسات الوحدة العربية ، ط2 ، بيروت ، 2007 : 142
  44. ( ) ظ: لغة الشعر المهجري ، اطروحة دكتوراه : 238
  45. ( ) موسوعة جبران خليل جبران العربية : 342 .
  46. ( ) المجموعة الكاملة لمؤلفات جبران خليل جبران ، ميخائل نعيمة ، تقديم واشراف ميخائيل نعيمة، دار صادر ، بيروت ، لبنان : 415 .
  47. () في الميزان الجديد : 77
  48. () ظ : الأصول الرومانسية في الشعر الجاهلي ، د . حسن دخيل الطائي ، دار الفرات الحلة ، 2012 : 19 وما بعدها .
  49. () موسوعة جبران خليل جبران العربية : 337
  50. () الموقف النقدي من الشعر المهجري . م سابق : 158
  51. () مذاهب الأدب الغربي ومظاهرها في الأدب العربي الحديث ، سالم أحمد الحمداني ، وزارة التعليم العالي والبحث العلمي ، جامعة الموصل ، كلية الآداب ، الموصل ، 1989 : 141
  52. () الموقف النقدي من الشعر المهجري : 142
  53. () حركة الابداع ، دراسات في الأدب العربي الحديث ، خالدة سعيد ، دار العودة ، ط2، بيروت ، 1982 :
    33
  54. ( )موازنة بين شعراء المهجر الشمالي وجماعة ابولوا دراسة في الخصائص الموضوعية والفنية : 100 .
  55. ( ) الموقف النقدي من الشعر المهجري : 146 .
  56. () موسوعة جبران خليل جبران العربية : 330
  57. () الأدب العربي الحديث ، دراسة في شعره ونثره ، د. سالم الحمداني ، فائق مصطفى ، مديرية دار الكتب للطباعة والنشر ، جامعة الموصل ، الجمهورية العراقية ، 1987 : 223
  58. () م . ن : 224
  59. () ظ : شعراء المهجر الشمالي وجماعة أبولو دراسة في الخصائص الموضوعية والفنية : 425
  60. () ظ : شعراء الرابطة القلمية ، دراسات في شعر المهجر : 118
  61. () موسوعة جبران خليل جبران العربية : 547
  62. () ظ : حركة التجديد الشعري في المهجر بين النظرية والتطبيق : 216 – 217
  63. () شعراء الرابطة القلمية دراسات في شعر المهجر : 118
  64. () م . ن : 123
  65. () موسوعة جبران خليل جبران العربية : 548 – 549
  66. () حركة التجديد الشعري في المهجر (بين النظرية والتطبيق): 209