اختلاف المصطلحات عند ابن جنّي وأصحاب المدرسة التوليدية التحويلية في ضوء نظرية التوليد والتحويل

أحمد واثق عبد اللطيف1 د. إبراهيم أوزاي1

1 كلية التربية – جامعة غازي/ تركيا – أنقرة

بريد الكتروني: ahmed.al.rashed30@gmail.com

HNSJ, 2022, 3(12); https://doi.org/10.53796/hnsj31224

تنزيل الملف

تاريخ النشر: 01/12/2022م تاريخ القبول: 14/11/2022م

المستخلص

يدور موضوع هذا البحث حول إجراء مقاربة بين مصطلحات ابن جنّي في كتابه الخصائص والمصطلحات المستخدمة عند أصحاب المدرسة التوليدية التحويلية، وقد تمت هذه المقاربة وفق إجراءات منهجية تمثلت في تحديد المصطلح عند أصحاب النظرية التحويلية والتعريف بها بشكل مختصر ثمّ ذكر ما يقابلها عند ابن جنّي وبيان وجه التشابه في معانيها.

وقد خَلُص البحث إلى عدة نتائج، منها: إنّ الاختلاف بين ابن جنّي وأصحاب المدرسة التوليدية التحويلية كان اختلاف مصطلحات وتسميات فقط، أما المضمون والمعاني فقد كانت متوافقة إلى حدٍ كبير. يمكننا القول بصراحة إنّ جذور نظرية تشومسكي تظهر بوضوح عند ابن جنّي في كتاب الخصائص خاصة وكتب التراث اللغوي العربي بشكل عامٍّ، والدليل على ذلك التوافق الكبير الملموس في المنطلقات لكلٍّ منهما والأسس المتّبعة عند كليهما عند تحليلهما للتراكيب.

الكلمات المفتاحية: المصطلحات – التوليدية – التحويلية – الخصائص.

Research title

The difference of terminology for Ibn Jinni and the owners of the transformative generative school in the light of the generation and transformation theory

Ahmed Watheq Abdel Latif1 Dr. Ibrahim Ozay1

1 Faculty of Education – Gazi University / Turkey – Ankara

Email: ahmed.al.rashed30@gmail.com

HNSJ, 2022, 3(12); https://doi.org/10.53796/hnsj31224

Published at 01/12/2022 Accepted at 14/11/2021

Abstract

The topic of this research revolves around conducting an approach between Ibn Janni’s terminology in his book The Characteristics (Al-Khasais) and the terminology used by the owners of the generative transformational school. This approach was carried out according to methodological procedures represented in defining the term according to the owners of the transformational theory and defining it briefly, then mentioning its equivalent according to Ibn Jinni and clarifying the similarity in its meanings.

The research concluded with several results, including: The difference between Ibn Jinni and the owners of the transformational generative school was a difference of terms and nomenclature only, while the content and meanings were largely compatible. We can say frankly that the roots of Chomsky’s theory appear clearly in Ibn Jinni in his book The Characteristics (Al-Khasais) in particular and the books of the Arabic linguistic heritage in general, The evidence for that is the great tangible compatibility in the premises of each of them and the foundations for both of them when analyzing the structures.

Key Words: Terminology – Generative – Transformational – Characteristics.

مقدمة

إنّ ظهور الدراسات اللغوية الحديثة عند الغرب لم يكن بمعزلٍ عن تراث العرب اللغوي، فالمتتبع لتلك الدراسات يجد أنّها قد أثرت تأثيراً مباشراً في ظهور هذه الدراسات الحديثة، والاتصال بين الدرسين اللغويين العربي والغربي ثابتٌ تاريخياً، وخير دليل على ذلك ما حدث عبر الأندلس من ترجماتٍ للدراسات العربية القديمة إلى لغاتٍ أوربيّة مختلفة.

ومن المعلوم أنّ الدراسات اللغوية الحديثة عرفت نظريات عديدة، منها ما يعرف – بالنظرية التوليدية التحويلية- التي اشتهر بها العالم الأمريكي نوام تشومسكي بعد أن قام هو وأتباعه بتوجيه نقدٍ لاذعٍ إلى ما كانت تطرحه المدرسة السلوكية من آراء، ليبدأ بعد ذلك مشواره في وضع أسس نظريته، وتوضيحه للأصول التي تقوم عليها النظرية. وبعد مرور نظريته بمراحل عدة تطورت فيها حتى استقرت على ما وصلت إليه ما يعرف بمرحلة “النظرية النموذجية الموسعة”[1]، وعند وضعه -تشومسكي- لأصول وأسس النظرية استخدم مصطلحات لم تكن قد استعملت عند علماء اللغة العربية قديماً، لكنها مشتركة في معناها تحت تسميات أو مصطلحات كان العلماء العرب يستخدمونها، ومن هؤلاء العلماء النحوي الصرفي ابن جنّي صاحب كتاب “الخصائص” الذي ذاع صيته لما احتوى عليه من أصول اللغة والأصوات ونحوها وصرفها، لذا سنحاول في هذا البحث المقاربة بين المصطلحات التي ذكرها تشومسكي والتي تخص النظرية التوليدية التحويلية والمصطلحات التي استعملها ابن جنّي في خصائصه والتي كان فيها إشارة إلى الأصول التي اعتمدها تشومسكي في نظريته – وهذا موضوعٌ آخر لا زلت أحاول مناقشته في بحثي للماجستير-.

وسيكون البحث على أقسام، الأول منها سيكون للتعريف بابن جنّي وكتابه الخصائص وبعض آراءه اللغوية وبعض الملامح من سيرته، أما المبحث الثاني أو القسم الثاني فسيكون عن النظرية التوليدية التحويلية ومؤسسها تشومسكي، نشأتها وتطورها، وأصولها وأسسها، والقواعد التي قامت عليها، وكل ذلك بشكل مختصر ومبسط لأن المجال لا يتسع. أما المبحث الثالث والأخير فكان للمقاربة بين مصطلحات ابن جنّي وأصحاب المدرسة التوليدية التحويلية وعلى رأسهم تشومسكي وبيان تشابه المحتوى واختلاف التسميات فقط.

  1. ابن جنّي وكتابه الخصائص:

عُثْمَان بن جني أَبُو الفتح الموصلي النحوي اللغوي له كتب مصنفة فِي علوم النحو، أبدع فيها وأحسن، منها: التلقين، واللمع، والتعاقب فِي العربية، وشرح القوافي: والمذكر والمؤنث، وسر الصناعة، والخصائص، وغير ذلك، وكان يَقُولُ الشعر، ويجيد نظمه، وأبوه جني كان عبداً رومياً مملوكاً لسليمانَ بن فهد بن أَحمد الأزدي الموصلي[2].

وكلمة (جني) بكسر الجيم وكسر النون مع تشديدها وسكون الياء علم رومي وقيل معرب كني وقيل معرب جنايس مأخوذة من الأصل اليوناني (Gennaius) ومعناها كريم، نبيل، كريم، جيد التفكير، عبقري، ويذكر صاحب الأنساب أنّ أبا الفتح كان يقول إنّ أباه كان فاضلاً بالرومية[3]. كان ابن جني من أحذَقِ أهلِ الأدبِ بالنحوِ والتصريفِ وأعلمِهِم، وقد صنّفَ كُتباً في ذلك أبرَّ بها على المتقدمين وأعجزَ المتأخرينَ، ولم يكنْ في شيءٍ من علومِهِ أكملَ منهُ في التصريفِ، ولم يتكلمْ في التصريفِ أحدٌ أدقَّ كلاماً منهُ، وَقَدْ أَقَامَ بِبَغْدَادَ إِلَى أَنْ تُوُفِّيَ لَيْلَةَ الْجُمُعَةِ سنةَ اثنتين وتسعين وثلاثمائة كما يذكر صاحب مُعجمِ الأدباء[4]. وكان قد أخذ علمه عن علماء اللغة المشهورين في ذلك الوقت، فقد ذكر السيوطي في كتابه (المزهر في علوم اللغة وأنواعها)[5] أخذ النحو عن الأخفش أحمد بن محمد الموصلي الشافعي، كما أنه لزمَ أبا علي الفارسي أربعين سنة (377هـ) وكان من أشهر شيوخه، حيث قرأ عليه في صباه الأدب، وأخذ عنه الكثير، وكانت مصاحبته للفارسي بعد أنْ تصدّر للتدريس في الموصل وقد كان لا يزال يافعاً، فمرّ به الفارسي يوماً وهو يدرس فسأله سؤالاً والناس من حوله، فلم يجد جوابا، قال أبو علي: “تزبَّبت وأنت حِصرَم”، عندها ترك ابن جني الحلقة وتبعه وبقيَ ملازماً إيّاه حتى وفاته ثم خلفه ببغداد[6].

كان ابن جني يروي عن الأعراب الذين لم تفسد لغتهم ولم تدخلها العجمة كثيراً، متبعاً في فعله هذا العديد ممن سلفه من اللغويين. ويُذكر عنه أنّه كان يمتحن البدوي ليتثبت من أمره قبل أن يروي عنه. وكان قد عقد باباً في خصائصه لهذا، أسماه: “باب في ترك الأخذ عن أهل المدر كما أخذ عن أهل الوبر”. ومن الجدير بالذكر صحبته للمتنبي بعد أن لقيه بحلب عند سيف الدولة الحمداني، وكذلك عند عضد الدولة بشيراز، وكانا قد تناظرا عند لقائهما بحلب وبعدها قويت أواصر المحبّة بينهما، وقد أجلّه المتنبي كثيراً، وكان يقول في حقه: “هذا رجلٌ لا يعرف قدره كثير من الناس”. ويذكر أنّ المتنبي كان إذا سُئل عن معنى قاله، أو توجيه إعرابي شابه بعض الغرابة كان يقول: عليكم بالشيخ ابن جني فسلوه فإنه يقول ما أردت وما لم أرد.[7] (النجار، مقدمة الخصائص، ص21). وتدل مقالة المتنبي هذه على قوة حجة ابن جني وسعة علمه وأنّه قد يدلّ على معانٍ في الكلام لم يعرفها قائله. ويُعدّ ابن جني أول من شرح ديوان المتنبي بشرحين، أحدهما الشرح الكبير والثاني الشرح الصغير وهو الذي وصل إلينا، وكان ابن جني يصف المتنبي بشاعرنا، ويحسن الثناء عليه، ويستشهد بشعره في المعاني والأغراض فتراه يقول في الخصائص: “وحدثني المتنبي شاعرنا، وما عرفته إلا صادقاً…”[8].

ولقد عدّ أهل اللغة ابن جنّي فيلسوف العربية من غير منازع، ترك الكثير من مؤلفاته اللغوية وراءه التي كانت ولا زالت تُعدُّ نبراساً يستسقي الباحثون اللغويون قديماً وحديثاً من معينه، وعُرف عنه شهرته ببلاغة عبارته، وحسن تصريف الكلام، ولإبانة عن المعاني بأحسن وجوه الأداء. ويغلب عليه طابع الاستقصاء والغوص في التفاصيل، والتعمق في التحليل، واستنباط المبادئ والأصول من الجزئيات، ومن المباحث التي سبق بها غيره الاشتقاق الأكبر، وكان قد استمدّ هذه الفكرة من أستاذه الفارسي[9]. كان ابن جنّي يسمو في عباراته حتى يبلغ بها ذروة الفصاحة خصوصاً في المسائل العلمية الجافّة البعيدة عن وجوه الخيال. وقد فتح أبواباً في العربية لم يقدر غيره على فتحها، وجعل أصولاً في الاشتقاق ومناسبة الألفاظ للمعاني وغيرها. وأُثر عنه أنّه كان جاداً صادقاً في قوله وفعله، ولم يكن كرجال عصره من أهل الأدب ممن يميل إلى حياة اللهو والمجون، فقد كان عفَّ اللسان، فصيح القلم، متجنباً الألفاظ المندية للجبينِ، ويرجع ذلك لانشغاله بالتعليم والتدريس، على عكس غيره ممكن كان همهم منادمة الملوك والحكام وإرضاؤهم مثل أبي الفرج الأصفهاني وغيره. وعند الحديث عن حياة ابن جنّي الفكرية والعقدية، فإنّه كان بصريَّ المذهب في النحو، معتزلياً في العقيدة، حنفي المذهب في الفقه، ومع افتخاره بنسبه الرومي إلّا أنه كان بعيداً عن الشعوبية، على الرغم من ذكره لمجد العرب وفصاحتها وحكمتها في مواقف كثيرة.

أما كتابه الخصائص، فيعُدُّ واحداً من أشهر الكتب في أسرار العربية وفقه اللغة وفلسفتها، فصّل فيه ابن جني القول في بنية اللغة وأصولها وفقهها، وجعله على أبواب، استهلّه ببابٍ سمّاه باب إلهامية اللغة واصطلاحيتها، ثم عرض قضايا من أصول اللغة مثل القياس، والسماع، والعلل، والاستحسان، والحقيقة والمجاز، والتقديم والتأخير، والأصول والفروع، يبدأ في كتابه بالتفريق بين الكلام والقول، فيُعرّف كلاً منها تعريفاً اصطلاحياً، ويستبعد ذكر كلمة (حديث) في تعاريفه ولو كان قد ذكرها لأخذت مكان القول، فالقول أهمّ من الكلام والحديث، والكلام يأخذ مرتبة أعلى من الحديث فقول الله عزّ وجلّ كلام، أمّا قول البشر فهو حديث والجميع يقولون، وذهب ابن جنّي إلى أنّ الدّوابّ تقول بلسانٍ لا يعرفه البشر. وتفرقة ابن جنّي هذه تشبه التفريق بين الكلام والحديث عند دي سوسير، فالكلام عنده -دي سوسير- تامّ وهو الذي تنطق به الجماعة، أمّا الحديث عنده فهو غير تامٍّ ويتلفظ به الفرد فقط.

ويستمرُّ مسترسلاً في هذا الموضوع حتى يصل إلى الأصوات العربية وخصائصها الصرفية والنحوية، ثمّ ينتقل إلى الحديث عن كمية الحركات، ويرى أنّ الحركات في اللغة العربية عنده ست وليست ثلاث كما عند غيره، فيضيف إلى الضمة والكسرة والفتحة ثلاث أخريات وهنّ الفتحة قبل الألف الممالة (وهي بين الفتحة والكسرة)، والحركة بين الفتحة والضمة (والتي تقع قبل ألف التفخيم)، والحركة بين الكسرة والضمة (وهي الكسرة المشممة ضماً أو كسراً) مثل كسرة قاف (قيل)، ويُسمي هذه الحركات الصوتيات حال اجتماعها في لهجة واحدةٍ من لهجات العرب ويُطلق عليها في اللسانيات الحديثة بأنّها فروعٌ للحركات الثلاث الأساسية، وفي حال عدم اجتماعها في لجهة واحدة وكانت مجتمعةً في لهجات متعددة أو في بعضها دون الآخر سمّاها الأصوات الازدواجية.

ثمَّ ينتقل للكلام على اللسان وأصله مورداً بعض الأقوال وهل هو إلهامٌ أم اصطلاح ويعود للخلاف القديم في هذا الأمر فتراه مرة يقول بالاصطلاح حين يتكلّم عن بعض الألسنة الأجنبية، ويوافق رأي مدرسة التحويل وتشومسكي بالقول بأنّها إلهام عند حديثه عن اللغة العربية، ويذكر في مواضع عدة بعض خصائص اللهجات العربية واختلافاتها ويسمّيها لغات العرب بدلاً من اللهجات ويضرب أمثلةً لذلك مثل عنعنة تميم وما شابهها، ثم يأتي للكلام عن مبدأ المتحرك والساكن وهو مبدأٌ مهمٌّ جداً في مجال التحليل الوصفي للألسنة مؤكداً على أنّ الكلمة لوحدها ليست لها فائدة لذاتها، ولكنّها تكون ذات فائدة عند دخولها في جملة وعلى إثر وجودها في الجملة يكون النظر إلى نوع الحركة فيها، ثمّ يفرد الكلام للحديث على ما دخل من كلمات أجنبية في كلام العرب معتبراً إيّاها كلمات عربية ما دامت تسري عليها أحكام الأعراب في اللغة العربية، وموقفه هذا تؤيده بعض الآراء في المدراس الحديثة التي ترى أنّ الكلام الأجنبي إذا دخل على لسانٍ بعينه صار منه وبالأخص إذا كانت القواعد النحوية والصوتية والصرفية سارية على تلك الكلمات، وكتابه هذا يُعدّ موسوعة نحوية واضحة شاملة قلَّ نظريها، أشاد في موسوعته هذه باللسان العربي وما فيه من دقّةٍ وجال لا تجتمعان للسان غيره ولذا تراه يحاول أن يبعد عنه وعن أستاذه (الفارسي) تهمة نسبته لغير العرب فيأتي ليوضح أصلاً من الأصول اللسانية السليمة وهي مسألة اشتراك العلوم اللسانية جميعها في هدف واحدٍ وهو البصر بالظاهرة اللغوية، فينص على ذلك بقوله: ” فإن العجم العلماء بلغة العرب وإن لم يكونوا علماء بلغة العجم فإن قواهم في العربية تؤيد معرفتهم بالعجمية وتؤنسهم بها وتزيد في تنبيههم على أحوالها لاشتراك العلوم اللغوية واشتباكها وتراميها إلى الغاية الجامعة لمعانيها”[10]. ثمَّ يختتم كتابه بالحديث عن سقطات العلماء.

  1. المدرسة (النظرية) التوليدية التحويلية وتشومسكي:

حاول تشومسكي أن يوجد بديلاً للمنهج الذي اتبعه البنيويون وطبقوه على مدوناتهم اللسانية، والمعروف بالمنهج الوصفي، فعمل بمنهجٍ عقليٍّ محكم، وراح يؤسس ويضع قواعد لنظرية لسانية حديثة يمكنها أن تكون قادرة على استيعاب الدّال والمدلول، والمدلول على وجه الخصوص؛ وذلك بسبب إبعاد التحليل التوزيعي له من حقول الدراسة اللسانية لأنّ منهجهم كان يميل إلى الوصف السطحي للأشكال اللغوية كما هي منطوقة بالفعل ولذلك كان يوصف بالمنهج الشكلي غير مهتمٍّ بما تحمله هذه الأشكال من سياقات ذات أبعاد مختلفة سواء كانت اجتماعية أو ذاتية، ممّا جعل تشومسكي يرفض الشكل الوصفي قائلاً: ” إنّ التحليل اللغوي لا ينبغي أن يكون وصفاً لما قد قاله المتكلمون، وإنّما شرحاً وتعليلاً للعميلات الذهنية التي من خلالها يمكن للإنسان أن يتكلّم بجملٍ جديدة”[11]. ليبدأ بعدها مشواره في وضع الأسس والقواعد لنظريته الجديدة التي شغلت المتخصصين باللسانيات، ولكن قبل ذلك لا بدّ من أن نقف قليلاً عند تشومسكي وإلقاء نظرة سريعة عليه.

أفرام نوام تشومسكي من عائلة روسية الأصل تنتمي إلى الديانة اليهودية، ولد في مدينة فيلديلفيا، الواقعة في ولاية بنسلفانيا عام 1928م بدأ دراسته في جامعة بنسلفانيا في مجالات متعددة منها الألسنية والرياضيات والفلسفة، في عام 1951م تغيرت حياته بشكل كبير بعد أن حصل على مركز باحث في المخبر الإلكتروني والفضل في ذلك يعود إلى الألسنيين موريس هال رومان جاكبسون اللذين مدّا له يد المساعدة للحصول على هذا المركز في معهد ماسشيوست التكنولوجي M.I.T. حيث بدأ بتدريس الطلاب الذين يتخصصون بالعلوم اللغتين الألمانية الفرنسية، وفي عام 1955م حصل على شهادة الماجستير في علم الفونيمات الصرفي للعبرية الحديثة، وفي السنة نفسها حصل على شهادة الدكتوراه من جامعة بنسلفانيا، وحصل من جامعتي شيكاغو ولندن على شهادتي دكتوراه فخرية سنة 1967م وفي سنة 1970م حصل على شهادة دكتوراه أخرى من جامعة دلهي، بعدها حصل على الدكتوراه من جامعة المعهد التكنولوجي M.I.T. كان ذلك سنة 1973م.[12]

شَغلَ تشومسكي في تاريخ اللسانيات مكانة لا ينافسه فيها إلا قلة من علماء الصنعة، وذلك بعد شروعه بتوجهٍ جديدٍ في دراسة موضوع اللسانيات، محدثاً ما يشبه القطيعة مع المنهاج المتبعة قبله في دراسة اللسانيات وما رسمتها من أهدافٍ لنفسها فبدلاً من أن يكون الهدفُ وصفَ المادة اللغوية التي قام بجمعها الدراس أصبح تفسير هذه المادة تفسيراً يهدف إلى اكتشاف ما يكمن وراء الظاهر الذي مثلته تلك المادة اللغوية. وكان ذلك باباً دافعاً لكثير من التغييرات التي طرأت على اللسانيات بعد عام 1957م وهو تاريخ نشر تشومسكي لكتابه “البُنى التحتية”، وإذا تتبعنا تاريخ التوجه الجديد الذي بدأه تشومسكي في دراسة اللسانيات فسنجده مرَّ بتغيرات كبيرة بسرعة ملفتةٍ للنظر، والسبب في ذلك يرجع إلى حيوية الدراسة التي نتجت عن جوٍّ علميٍّ مشبعٍ بأفكارٍ جديدةٍ لم تكن من قبل لدى دارسي اللسانيات، ويلاحظ الدارس أن تشومسكي احتلَّ المقدمة في قيادة هذه التغييرات وكثيراً ما يتخلى عن أفكاره وآراءه التي تخص قضية معينة معتنقاً آراء نُقّاده، لكنه حين يعتنقها يعمل على تطويرها أكثر وكأنها أفكاره بالأصل.

عُرف تشومسكي عام 1957م زعيماً للمدرسة اللغوية في الولايات المتحدة الأمريكية بعد نشره لكتابه البُنى النحوية، عندها قام بنقد مدرسة (بلومفيلد) نقداً لاذعاً مُركّزاً نقده على أهم الأسس التي قامت عليها المدرسة وهي الجوانب السلوكية في النظرية، وكان هذا هو المنطلق الأساسي الذي بدأت منه المدرسة التوليدية التحويلية بعد خروجها على المدرسة السلوكية أو ما يعرف بالتركيبية بعد أن عُنِـيتْ بالظاهرة اللغوية؛ فقد قامت النظرية التوليدية بوصف اللغة من جانبها العقلاني كونها – أي اللغة – ظاهرة عقلانية، على عكس ما قامت به المدرسة السلوكية من دراستها للغة ووصفها انسجاماً مع التجريبية في العلوم، لكنّ النظرية التوليدية جعلت وصف المعرفة اللغوية هو المحور الأساس للدراسة اللغوية ولا يعتمد على السلوك اللغوي فقط، وبهذا غدت المدرسة التوليدية أقرب إلى المنهج العقلاني الذي كان سائداً في أوربا على التفكير العلمي في تلك الحقبة من الزمن[13]. ويعترف تشومسكي بأنّ للمدرسة العقلانية وآرائها تأثيراً عليه وعلى آراءه والتي كان من أشهر أعلامها – أي المدرسة العقلانية – كما هو معروف الفيلسوف (ديكارت) الذي اشتهر في عمق آراءه عن طبيعة اللغة والمناقضة بشكل تامٍ لأسلافه الذين تميزت آراؤهم بالسطحية. قام تشومسكي بتقديم تصوراتٍ معرفيةٍ حديثة امتازت بنقدها للمنهج السلوكي الذي قامت أسسه على افتراضٍ خارجيٍّ سطحيٍّ للغة، لذلك حاول تشومسكي أن يتعمق في المقتضيات النفسية للمتكلم على اعتباره مبدعاً لذا جعل تشومسكي استلهامه – أي المتكلم المبدع- للعقل إطاراً مرجعياً يتحدد بموجبه مسألة اكتساب اللغة والتي تتحقق من وجهة نظر تشومسكي بمبدأين أساسيين هما الأداء والكفاءة أو الكفاية اللغوية.

ومن الجدير بالذكر أنّ تشومسكي لم يكن بعيداً عن الاطلاع على اللغة العربية، فقد درس نحو سيبويه في أحد مقررات اللغة العربية المتقدمة. جاء ذلك خلال رده على رسائل من الدكتورة معصومة عبد الصاحب أرسلتها إليه تسأله فيها عن بعض المسائل التي تشترك فيها اللغة العربية مع المنهج التوليدي الأمريكي، وهذا يؤكد تأثر تشومسكي بعلماء اللغة العربية كأمثال سيبويه، ويصرّح بأنّه قد اطلع على دراسات لغوية عديدة لعلماء العربية القدامى، فيقول في إحدى مقابلاته مع مجلة من المجلّات العلمية: ” قبل أن أبدأ بدراسة اللسانيات العامة كنت أشتغل ببعض البحوث المتعلقة باللسانيات السامية، وما زلت أذكر دراستي للآجرومية منذ عدة سنوات خلت … وكنت مهتماً بالتراث النحوي العربي والعبري”[14].

الأسس والمفاهيم التي قامت عليها المدرسة (النظرية) التوليدية التحويلية:

  • الفطرة اللغوية: كانت مسألة الفطرة اللغوية واكتساب اللغة عند تشومسكي من أهمّ الأسس التي اعتمد عليها في وضع نظريته التوليدية التحويلية، فقد جعلته يفكّر فيما يتبعها من أفكار تقع في ذهن الإنسان، فاتّخذ منها حدا فاصلاً بين الإنسان وغيره من الحيوانات، فالإنسان -وإن كان غير سويٍّ- فهو قادر على أن يُنتج جمُلاً غير محدودة ويعبّر عمّا في داخله، ولكنّ الحال مختلف عند الحيوانات، فإنّ أذكاها وأكثرها تعلّماً من الإنسان عن طريق التدريب تعجز عن فعل ذلك. وازداد تشومسكي تمسّكاً بفكرته هذه وتأكيداً عليها أثناء وضع نظريته ما شاهده عند الطفل الصغير من تدرّجٍ في الكلام، وانتقاله من مرحلةٍ إلى أخرى عند تعلّمه للغة، فهو يبدأ في سنٍّ صغيرة (سنة فما فوق) بإنتاج بعض الجمُل، ثمّ تزداد شيئاً فشيئاً ليكون قادراً على التعبير بشكل أوضح وعدد أكبر من الجُمل عمّا يجده في نفسه عند وصوله سنَّ السابعة مثلاً ولم يكن قد سمع تلك الجُمل من قبل، بل هو من أنتجها بفطرته واكتساب العقل وإدراكه للسليم منها وتمييزها عن غيرها، ثمّ يأتي دور المدرسة بعد ذلك ليبدأ بتعلّم كيفية القرآءة والكتابة وليس كيفية توليد الجُمل[15]. ويؤكد تشومسكي أنّ ظاهرة اكتساب اللغة لا تمثّلُ مشكلة لغوية لوحدها، وإنّما هناك عوامل أخرى تصحب هذه العملية منها عقلية ونفسية واجتماعية لها تأثير على عملية النمو اللغوية، وهنا حاول تشومسكي الربط بين تلك العوامل من خلال نظريته اللغوية ليتمكن فيما بعد من تقديم تفسيرٍ علميٍّ لظاهرة الاكتساب وتأثير القوة النفسية والعقلية وقدرة الطفل اللغوية.
  • الكفاية اللغوية: يفرق تشومسكي بين الكفاية اللغوية والأداء فيرى أنّ الكفاية تعني قدرة صاحب اللغة على فهم تراكيب وقواعد لغته وقدرته نظرياً على تركيب وفهم عددٍ غير محدودٍ من الجمل، مدركاً الصواب منها والخطأ، وأما الأداء فهو الأداء الفعلي لصاحب اللغة لفظاً وكتابةً. وهذان المبدئان هما أحد الأسس التي قامت عليها النظرية التوليدية التحويلية عند تشومسكي. وباختصار يمكننا أن نقول إن الكفاية اللغوية في إطار النظرية التوليدية التحويلية هي: المقدرة على إنتاج الجمل وتفهمها أثناء عملية تكلم اللغة، وبذا يمكننا التمييز بين الكفاية اللغوية وما يُسمى بالأداء الكلامي فالأولى هي المعرفة الضمنية باللغة، أما الثاني – الأداء- هو الاستعمال الآني للغة ضمن سياقات معينة[16]. وبذا فإنّ كل إنسانٍ نشأ في بيئة معينة يمكنه أن يعبر بلغة هذه البيئة، وفي الوقت ذاته يعني هذا أنّه يمكنه فهم عددٍ غير متناهٍ من جملِ هذه اللغة باختلاف صياغاتها، وإن لم يكن قد سمعها من قبل، والسبب يكمن في أنّ قدرة الإنسان غير محدودة بل يمكنه وبصورة عفوية صياغته أي جملة شاء وفهم جملٍ أخرى إذا كان متبعاً لقواعدَ معينة اكتسبها عند اكتسابه تلك اللغة. وإذا سلّمنا بأنّ الإنسان عندما يتكلم يستعمل معرفته الضمنية بترتيب قواعد لغته – أي كفايته اللغوية- لا يعني ذلك أبداً أنّ استعماله يكون بشكلٍ متكاملٍ ومتوافقٍ مع تلك القواعد، والسبب في ذلك يرجع إلى أنّ الأداء الكلامي يتضمن حقيقةً – وإن كان ناجماً عن الكفاية اللغوية – مظاهر عدة تعتبرُ طفيليةً بالنسبة إلى التنظيم اللغوي الكامن ضمن الكفاية اللغوية، وترتبط هذا المظاهر بعوامل خارجية -أي خارجة عن إطار اللغة- مقسومة إلى قسمين: وهي العوامل السيكولوجيّة ومنها، الذاكرة، والانتباه، والأمور الانفعالية…، والقسم الثاني هي العوامل السوسيو- ثقافية ومنها، طريقة التدريس اللغوي، والانتماء إلى مجموعة اجتماعية معينة…الخ.
  • القواعد الكلية: تعتمد القواعد في الدراسات اللسانية – المعتمدة في اللغة العربية – على ما يمتلكه العربي من كفاية لغوية تُتيح له أو تُمكنه من إنتاج أو تفهّمِ ما تحويه لغته من جملٍ غير متناهية سواء من حيث عددها أو عدد عناصرها وبالتالي فإنّ هذه القواعد تقدم وصفاً بصورة شاملة ووافية لجميع الجمل المندرجة تحت هذه اللغة وتفسيراً. والمقصود بوصف القواعد هنا هو وصف قواعد الكفاية اللغوية التي تعود إلى متكلم اللغة، والتي تكون مختلفة عن قواعد الأداء الكلامي، وذلك بالاعتماد على ما يسمى بالحدس اللغوي. وفي الواقع فإنّ النظرية التوليدية التحويلية تعتمدُ على الإنسان في موضوع دراستها والمقصود بالإنسان هنا هو الإنسان المتكلم – المستمع السوي الذي يتبع لبيئة لغوية متجانسة بشكلٍ تام، ويعرف لغته جيداً. والتحديد هنا لمتكلم اللغة في النظرية التوليدية لا نجد فيه اختلافاً كبيراً عن التحديد الذي وضعه اللغويون القدامى سابقاً لمتكلم اللغة الذي يُمكن الأخذُ بكلامه كشاهدٍ لغوي، فقالوا: كل عربي عاش في زمن ما بين العصر الجاهلي والقرن الرابع الهجري وبالإمكان الوثوق به ولم يتأثر كلامه بالاختلاط مع الأعاجم ولم يكن مصاباً بأي مرض عقلي[17]. ومن هنا نتوصل إلى أنّ المتكلم – المستمع يُعدُّ مصدراً للغة التي يستعملها أثناء أداءه الكلامي بالإضافة إلى كونه محور أو موضوع الدراسة واستعماله للغة هنا يكون بصورة عامة ضمن معرفته بقواعد هذه اللغة، فالإنسان الذي يستطيع التكلّمَ بلغةٍ معينةٍ يمكنه إنتاج جُملٍ يفهمها في لغته مستدلاً عليها بإحكام تحدد الصواب من الخطأ ضمن التركيب. وإذا كان المتكلم -متكلم اللغة- قادراً على أن يعطي معلومات تخص مجموعة من الكلمات التي إذا كانت بصورة متلاحقة أعطت جملة صحيحة من حيث قواعد اللغة أو خاطئة، عندها يطلق على هذه القدرة التي يمتلكها المتكلم بـ (الحدس اللغوي الخاص بمتكلم اللغة)، والذي يوفر المادة اللغوية التي توضع من خلالها القواعد -بشكل خاص- هي الأحكام اللغوية التي يستطيع متكلم اللغة أن يقرّها إذا ما كانت مختصة بجُمل لغته التي يتكلم بها؛ والسبب في ذلك يرجع إلى أن مسألة الحدس اللغوي تمكن المتكلم من ملاحظة القضايا اللغوية مستنبطاً من خلالها قواعد اللغة.
  • القواعد التوليدية: هي جزءٌ من جهاز التوليد -أي توليد الجمل-. والمقصود بالتوليد هنا عملية ضبط جميع الجُمل المُحتَمَلُ وجودها في اللغة وتثبيتها. فالشكل الذي تتخذه القاعدة التوليدية إذاً هو “إعادة كتابة”، فهي تعيد كتابة رمزٍ معينٍ يُشير هذا الرمز إلى عنصرٍ معين من عناصر الكلام، برمزٍ آخرٍ أو عدةَ رموزٍ أخرى. فمثلا في اللغة العربية تندرج هذه الرموز من اليمين إلى اليسار بالتسلسل إلى آخر رمز لا يقبل الاشتقاق وهي ما أطلق عليها تشومسكي وأصحاب المدرسة بالمكون الفعلي أو الركن الفعلي والذي يحتوي على فعلٍ وزمن، والموكن الاسمي أو الركن الاسمي والذي يحتوي على (ال) التعريف واسم، ويمكن أن تشتمل الجملة على ركنٍ فعلي مؤلف من فعل وفاعل ومفعول به، ثم يتم استبدال كل رمزٍ من هذه الرموز بعنصر من عناصر الكلام تدريجياً حتى يتمَّ التوصل إلى اشتقاق الجملة وتكون هي آخر وحدة لا يُمكن اشتقاقها[18]. حاول تشومسكي عبر مبدأ التوليد أن يصل إلى القواعد البديهية التي يستعمل من خلالها صاحب اللسان لسانه الذي ولد فيه، وبذا فإنّ تشومسكي يرى أنّ صاحب كلّ لسانٍ يجيد الحديث بلسانه الذي ولد فيه ويمكنه أن يستظهر قواعد لغته دون تلقين من معلم أو غيره[19]. كما يؤكد من جهة أخرى على الجانب الإبداعي في اللغة، وهي القدرة التي يمتلكها كلّ إنسانٍ لتكوين عددٍ لا متناهٍ من الجمل وفهمها في لغته الأم ومن ضمنها الجمل التي لم يسمعها من قبل وكلّ ذلك يصدر عن الإنسان بطريقة طبيعية دون شعور منه بتطبيق قواعد نحوية معينة.

القواعد التحويلية: إنّ مفهوم التحويل قائمٌ على وجود جُملٍ في اللغة مرتبطة ارتباطاً وثيقاً ببعضها البعض، ودراسة عناصر هذه الجُمل لوحدها لا تمكننا من اكتشاف الصلة القائمة بينها، بل لا بدَّ لنا من مفهمومٍ يتيح لنا البحث في العلاقة الرابطة للجُمل بعضها ببعض، وفي الوقت نفسه تسمح لنا بإعادة تركيب عناصرها. والمفهوم الذي يصلح لذلك هو التحويل إذ ينص على “إمكانية تحويل جملة معينة إلى جملة أخرى واعتماد مستوى أعمق من المستوى الظاهر في الكلام”[20]. ويمكنه أيضاً -أي مفهوم التحويل- الكشف عن المعاني الضمنية العائدة للجُمل نفسها، فمفهوم التحويل يستخدم عندما تأتي أكثر من جملة تفيد معنى واحداً على الرغم من تباين تراكيبها، فما دامت متقاربة المعاني وإن اختلفت مبانيها، فهي إذاً جُملٌ تحولت عن جُملةٍ واحدة موجودة في مستوى البنية العميقة. وهناك شروط وقواعد متكاملة وضعها تشومسكي وأتباعه لتحويل الجمل من معلوم إلى مجهول ومن تقرير إلى استفهامٍ أو نفي… إلخ. ومن أهم عناصر التحويل التي تقوم عليها القواعد التحويلية هي: الحذف، والتعويض والتمدد أو التوسع والتقلص أو الاختصار والإضافة أو الزيادة والتبادل أو إعادة الترتيب.

  1. المقاربة بين مصطلحات ابن جنّي وتشومسكي:

إذا انتقلنا إلى المقاربة فسنقتصر على مصطلحات ابن جنّي في كتاب الخصائص والتي وافقت معانيها آراء المدرسة التوليدية التحويلية والتي عبّر عنها تشومسكي بمصطلحات مختلفة. ولكون ابن جنّي كان رائداً من رواد التراث اللغوي العربي، والجهود التي بذلها في الدرس العربي وأنظمته سواء الصوتية والصرفية منها أو النحوية والدلالية كانت منثورة في كتبه ومؤلفاته المتنوعة، وقد حقق سبقاً في الدرس اللغوي لم يسبقه إليه أحد من العلماء، فقد كان أول من استخدم في كتابه (سر صناعة الإعراب) مصطلح – علم الأصوات- عند دراسته للأصوات والبحث في مشكلاتها بطريقة مشابهة لما جاء في الدرس الصوتي الحديث، وإذا جئنا إلى آراءه اللغوية والنحوية في الخصائص فسنرى أنّ بعضها بالقواعد التحويلية وما جاءت به النظرية التوليدية التحويلية، فتراه يذكر في كتابه باباً سمّاه -باب في شجاعة العربية- قال فيه: “اعلم أن معظم ذلك إنما هو الحذف والزيادة والتقديم والتأخير والحمل على المعنى والتحريف”[21]. وهذا القول موافق لما جاءت به قواعد التحويل في النظرية التوليدية التحويلية، وقد وافقه في قوله هذا كثير من العلماء التحويليين المعاصرين فعلى سبيل المثال يذكر الدكتور خليل عمايرة[22] أنّ قواعد التحويل هي: الترتيب (وهو ما عبّر عنه ابن جني بالتقديم والتأخير)، والزيادة، والحذف، والتبعية (والتي عبّر عنها ابن جنّي بالحمل على المعنى)، والإحلال، ونرى هنا التوافق الكبير بين عمايرة وابن جنّي عدا عنصر التحريف الذي أبدله عمايرة بـ (الإحلال). بينما يذكر الدكتور محمود نحلة في كتابه مدخل إلى دراسة الجملة العربية[23]، أنّ قواعد التحويل هي: الحذف، والإحلال، والتوسيع، الاختصار، والزيادة، وإعادة الترتيب (والمقصود منه التقديم والتأخير) وهنا نلاحظ الاتفاق أيضاً مع ابن جنّي حتى في عنصري التوسيع (والذي يعني الزيادة)، والاختصار (والذي يعني به الحذف). وقد اتفق أيضاً العالم الغربي ستوك ويل Stockwell في آرائه مع ابن جنّي عند كلامه على قواعد التحويل والتي عدّها أربعاً في كتابه Foundations of Syntactic Theory والذي يعني أُسس النظرية النحوية، وهي: الحذف، والإحلال، والزيادة، والنقل (والذي يقصد به التقديم والتأخير).

وإذا جئنا إلى مسألة البنية العميقة والبنية السطحية عند تشومسكي والتحوليين نجد أنّ هذه المسألة عبّر عنها ابن جنّي بمصطلحي الأصل والفرع، فتراه يقول في بابٍ سمّاه -باب في المحذوف إذا دلّت الدلالة عليه كان في حكم الملفوظ به، إلّا أن يعترض هناك من صناعة اللفظ ما يمنع منه- قال فيه: ” من ذلك أن ترى رجلا قد سدد سهمًا نحو الغرض ثم أرسله فتسمع صوتًا فتقول: القرطاس والله أي أصاب القرطاس. فـ “أصاب ” الآن في حكم الملفوظ به البتة، وإن لم يوجد في اللفظ، غير أن دلالة الحال عليه نابت مناب اللفظ به”[24]. فإذا دققنا في المثال نجد أنّ قاعدة التحويل بالحذف التي ذكرها تشومسكي تنطبق على كلام ابن جنّي بالشكل التالي: فقوله (القرطاسَ) هنا يمثل البنية السطحية أو الفوقية، أمّا قوله (أصاب القرطاس) فالمقصود هنا البنية العميقة وأصل الكلام (أصاب هو القرطاس) ووفق قاعدة التحويل بالحذف قام بخذف الفاعل (هو) ثمّ حذف الفعل (أصاب) ليأتي بالبنية السطحية المنطوقة ليكون الناتج (القرطاسَ) وهي البنية السطحية المسموعة. ففي عُرف التحويليين تكون البنية العميقة هي الأصل في المفردات والجُمل وما البنية السطحية إلّا فرعٌ عنها، وهنا يتفق كلام اللغويين المحدثين مع ما أكد عليه ابن جنّي في مسألة الأصل والفرع التي أولاها اهتماماً كبيراً وعناية فائقة، فالحذف عنده هو فرع عن الأصل وهو الذكر.

إنّ النحو العربي بُني على أسس منهجية سار عليها علماء النحو والتزموها، ومن هذه الأسس الفكرية والأصول المنهجية التي اعتمدها النحاة العرب في بناء صرح النحو العربي (مبدأ التحويل) الذي كان الاعتماد عليه كبيراً في مسألة معالجة الظواهر اللغوية عند النحاة العرب ولكنّهم لم يتعاملوا معه كمصطلحٍ لغوي كما تعامل ومعه وعرُف به الأمريكي تشومسكي في كتابه الأبنية التركيبية عند حديثه عن نظرية النحو التوليدي التحويلي. فتراهم يعبرون عنها – ومنهم ابن جنّي- بقولهم: أصله أو قياسه كذا، والتقدير كذا، وقد تكون الجملة الأصلية المُحوّل عنها افتراضية وقد تكون مستعملة تم تحويلها لغرض معين كالمبالغة، أو كثرة الاستخدام، وأغلب تلك الافتراضات والتقديرات تمّت على اعتبار المعنى متوافقة مع القواعد الأصول. وقد يعبرون عن مبدأ التحويل بقولهم: الحمل على النظير والتقدير والتأويل والتخريج، وهذا كلّه واردٌ بكثرة في أبواب النحو وتحديد مبادئه. وأغلب المناهج النحوية والمظاهر التركيبية آنفة الذكر تلتقي في بابٍ واحدٍ وهو باب التحويل، وهو المبدأ الذي أقرّهُ العالم الأمريكي تشومسكي عند وضعه لنظرية النحو التوليدي. وقد وظّف علماء النحو العربي مبدأ التحويل على اختلاف قواعده من حذفٍ، وزيادةٍ وإعادة ترتيب …الخ، لإدراج كلِّ جملة لغوية منطوقة تحت قسمين لا ثالث لهما التزمها النحاة، وهما الجملتان الاسمية والفعلية.

أما بالنسبة لفكرة النحو العالمي عند ابن جنّي فنراه يعبر عنها في كتابه ببابٍ سمّاه -باب في أنّ العرب قد أرادت من العِلل والأغراض ما نسبناه إليها وحملناه عليها- بعد أن تكلّم على اتفاق العرب على الرغم من اختلاف لهجات كل قوم، وكثرتهم، وسعة بلادهم، وطول عهد زمان لغتهم، وتصرفها على ألسنتهم، إلّا أننا نرى اطرادا في قواعد عامة كرفع الفاعل، ونصب المفعول به، والجر بحرف الجر، وما إلى ذلك، قال:” فإن العجم العلماء بلغة العرب وإن لم يكونوا علماء بلغة العجم فإن قواهم في العربية تؤيد معرفتهم بالعجمية وتؤنسهم بها وتزيد في تنبيههم على أحوالها لاشتراك العلوم اللغوية واشتباكها وتراميها إلى الغاية الجامعة لمعانيها”[25]. وعبارته هذه فيها إشارة إلى فكرة النحو العالمي التي تكلّم بها تشومسكي في نظريته التحويلية والتي هي: “محاولة استخلاص قواعدَ عامةٍ من لسانٍ بعينه تنطبق عليه وعلى غيره من الألسنة”[26]. وقد وافق عبارة ابن جنّي السابقة كثير من علماء النحو التحويلي من المعاصرين، يقول السيد صبري إبراهيم في كتابه (تشومسكي فكره اللغوي وآراء النقاد فيه): ” تدور الكليات اللغوية حول الخصائص أو الميول التي يشترك فيها كل أفراد الجنس البشري، وتؤسس أهمّ قوانين علم اللغة”. (ص84).

وإذا جئنا إلى مفهوم الإبداعية وهي الصفة التي تبرز وتتجلى بشكل واضح كصفةٍ أساسيةٍ في النظرية الألسنية التقليدية كونها صفة أساسية تتصف بها اللغات بشكل عام بصورة مشتركة، والإبدعية: استعمالٌ ابتكاريٌ لنظام اللغة نفسها ولا يقتصر هذا الاستعمال على التلقيد السلبي لقواعد تلك اللغة وإنّما هو متجددٌ. فاللغة متسمة بصفة أساسية وهي توفير الوسائل اللازمة للإنسان حتى يعبرَ عن أفكارٍ متنوعة بصورة غير متناهية، وحتى تساعدَه على التفاعل مع المواقف الجديدة بصورة ملائمة لتلك المواقف، فهي إذن القدرة على إنتاج للجمل بشكل غير محدود، انطلاقاً من الكلمات والقواعد المعدودة والمحصورة في ذهن المتكلّم حسب تعبير تشومسكي. فاللغة عنده بالرغم من أنّها متكونة من مجموعة من الأصوات فهي قادرةٌ على توليد وإنتاج جملٍ عديدة لا نهائية، وبذا فإنّ كلَّ متكلّمٍ باستطاعته أن ينطق بجملٍ لم يسبق لأحد قبله نطقها، ويمكنه في الوقت نفسه فهم جملٍ لم يسمعها من قبل. فالإبداعية ميزةٌ يتميّز بها الإنسان عن باقي الحيوانات سواءٌ كان ذكياً أو غير ذلك، فلغة الحيوان تقوم على تنظيم مغلق، فعناصره مرتبطةٌ بعدد معيّنٍ من الشروط والتنظيم المغلق هذا هو سبب عدم قدرة الحيوان ابتكارَ استعمالٍ جديدٍ في الأصوات أو الصرخات. حسب تعبير التحويليين. ويتجلى مفهوم الإبداعية عن ابن جنّي في بابٍ سمّاه -باب في الشيء يُسمع من العربيّ الفصيح، لا يسُمع من غيره-:” فإنّ الأعرابي إذا قويت فصاحته وسمت طبيعته تصرَّف وارتجل ما لم يسبقه أحد قبله به”[27]. وهذا القول يتوافق مع مفهوم الإبداعية والنحو التوليدي التحويلي لدى تشومسكي والتحوليين توافقاً كبيراً، فقد عبّر ابن جنّي بقوله السابق عن المظهر الإبداعي عندهم. فالإبداعية في نظر أصحاب النظرية التوليدية التحويلية ومنهم ميشال زكريا: سمة تتجلى عبر مقدرة المتكلم على إنتاج عدد غير متناهٍ من الجمل وفهم تلك الجمل التي لم يسبق له أن سمعها من قبل، وهذه مقدرة مختصة بالإنسان وبالذات ولا يمكن أن نجدها عند كائنٍ آخر.

النتائج:

مما يسبق نتوصل إلى النتائج التالية:

  1. إنّ الاختلاف بين ابن جنّي وأصحاب المدرسة التوليدية التحويلية كان اختلاف مصطلحات وتسميات فقط، أما المضمون والمعاني فقد كانت متوافقة إلى حدٍ كبير.
  2. يمكننا القول بصراحة إنّ جذور نظرية تشومسكي تظهر بوضوح عند ابن جنّي في كتاب الخصائص خاصة وكتب التراث اللغوي العربي بشكل عامٍّ، والدليل على ذلك التوافق الكبير الملموس في المنطلقات لكلٍّ منهما والأسس المتّبعة عند كليهما عند تحليلهما للتراكيب.
  3. تأثر تشومسكي بعلماء اللغة العربية في موضوع الأداء اللغوي وربط اللغة بالجانب العقلي، وغالب الظنّ أنّ التأثر هذا جاء بسبب اتساع حركة الترجمة، وقد ذكرنا في موضع سابق في بحثنا هذا إقرار تشومسكي بدراسته للآجرومية.

المصادر والمراجع:

ابن جنّي، أبو الفتح عثمان. (1990م). الخصائص. تحقيق: محمد علي النجار. المكتبة العلمية، الطبعة الرابعة.

  • الحموي، شهاب الدين أبو عبد الله ياقوت بن عبد الله الرومي. (1993م). معجم الأدباء إرشاد الأريب إلى معرفة الأديب. تحقيق: إحسان عباس. بيروت: دار الغرب الإسلامي، الطبعة الأولى.
  • الخطيب البغدادي، أبو بكر أحمد بن علي بن ثابت بن أحمد بن مهدي. (2002). تاريخ بغداد. تحقيق: د. بشار عواد. بيروت: دار الغرب الإسلامي، الطبعة الأولى.

روبرت، أسس النظرية النحوية.Robert P. Stockwell, (1977) Foundations of Syntactic Theory, New Jersey, Prentice Hall.

  • زكريا، ميشال. (1985م). مباحث في النظرية الألسنية وتعليم اللغة العربية. بيروت، الطبعة الثانية.
  • زكريا، ميشال. (1987م). الألسنية التوليدية والتحويلية وقواعد اللغة العربية (الجملة البسيطة). المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر.
  • السامرائي، صالح فاضل. (1969م). ابن جني النحوي. بغداد: دار النذير للطباعة والنشر والتوزيع.
  • السيوطي، جلال الدين. (1998م). المزهر في علوم اللغة وأنواعها. تحقيق: فؤاد علي منصور. بيروت: دار الكتب العلمية، الطبعة الأولى.
  • صبحي، د. وفاء. (المدرسة التوليدية التحويلية). المحاضرة الخامسة، كلية الآداب والعلوم الإنسانية والاجتماعية – قسم اللغة العربية وآدابها (محاضرات منشورة على الإنترنت).

الطنطاوي، الشيخ محمد. (1995م). نشأة النحو وتاريخ أشهر النحاة. القاهرة، دار المعارف.

  • عبابنة، يحيى. (2008م). علم اللغة المعاصر. الأردن. دار الكتب الثقافي.
  • عمايرة، خليل أحمد. (1984م). في نحو اللغة وتراكيبها. جدة: عالم المعرفة، الطبعة الأولى.

غالي، محمد محمود. (2004م). النحو في القديم والحديث. الشركة المصرية العالمية للنشر، لونجمان.

  • غالي، محمد محمود. (2004م). النحو في القديم والحديث. الشركة المصرية العالمية للنشر، لونجمان.
  • النجار، محمد علي. مقدمة الخصائص. المكتبة العلمية، الطبعة الرابعة.

نحلة، محمود أحمد. (1988م). مدخل إلى دراسة الجملة العربية. دار النهضة للطباعة والنشر، بيروت.

الهوامش:

  1. ينظر: مباحث في النظرية الألسنية وتعليم اللغة العربية، ميشال زكريا، ص118.
  2. ينظر: تاريخ بغداد، الخطيب البغدادي، تحقيق: د. بشار عواد معروف، ط. الأولى 13/205.
  3. السامرائي، صالح فاضل. ابن جني النحوي. بغداد: دار النذير للطباعة والنشر والتوزيع. ص22.
  4. ينظر: معجم الأدباء، ياقوت الحموي، تحقيق: إحسان عباس، ط. الأولى 1585/4.
  5. ينظر: المزهر في علوم اللغة وأنواعها، السيوطي. 2/387.
  6. الطنطاوي، الشيخ محمد. نشأة النحو وتاريخ أشهر النحاة. ص165.
  7. ينظر: النجار، مقدمة الخصائص، ص21.
  8. ابن جنّي، الخصائص، 239/1.
  9. ينظر: النجار، مقدمة الخصائص، ص27.
  10. ابن جنّي، الخصائص 1/243.
  11. د. وفاء صبحي، (المدرسة التوليدية التحويلية). المحاضرة الخامسة، كلية الآداب والعلوم الإنسانية والاجتماعية – قسم اللغة العربية وآدابها (محاضرات منشورة على الإنترنت).
  12. ينظر: أسس النظرية النحوية، روبرتز، ص12.
  13. ينظر: علم اللغة المعاصر، عبابنة، ص54-56.
  14. د. وفاء صبحي، المدرسة التوليدية التحويلية، ص11-10.
  15. ينظر: عمايرة، في نحو اللغة وتراكيبها، ص55.
  16. ينظر: الجملة البسيطة، ميشال زكريا، ص7.
  17. ينظر: المصدر السابق، ص8.
  18. ينظر: المصدر السابق، ص13.
  19. ينظر: النحو في القديم والحديث، محمد غالي، ص9.
  20. زكريا، الجملة البسيطة، ص14.
  21. ابن جنّي، الخصائص، 2/360.
  22. ينظر: في نحو اللغة وتراكيبها ص66-67.
  23. ينظر: مدخل إلى دراسة الجملة العربية، ص55.
  24. ابن جنّي، الخصائص، 1/ 284، 285.
  25. المصدر السابق، 1/243.
  26. غالي، النحو في القديم والحديث، ص41.
  27. ابن جنّي، الخصائص، 2/25.