الأوزان الشعرية وموسيقاها وأثر القافية فيها في شعر الدكتور إبراهيم الكوفحي

تنزيل الملف

أ.د.هاشم صالح مناع1 أ.شفاء مأمون ياسين2

1 أستاذ الدراسات العليا في النقد والأدب – عميد كلية الآداب سابقاً – جامعة الإسراء – الأردن.

بريد الكتروني: drhmanna@hotmail.com

2 مدرسة اللغة العربية في جامعة زايد سابقاً – أبو ظبي – دولة الإمارات العربية المتحدة.

HNSJ, 2021, 2(10); https://doi.org/10.53796/hnsj21014

تاريخ النشر: 01/10/2021م تاريخ القبول: 20/09/2021م

المستخلص

هذا بحث يتناول الأوزان الشعرية وموسيقاها في شعر الدكتور إبراهيم الكوفحي وأثر القافية فيها، لا سيما ما نظمه على الأوزان العربية الأصيلة المعتبرة، وذلك من خلال استقراء الأعمال الشعرية الكاملة له، وعمل إحصائية دقيقة للقصائد، وأنواع القوافي، والأوزان المستعملة، والأغراض الشعرية… وبيان مكامن الموسيقا فيها، ثم بيان قيمتها، وفائدتها، وأهميتها، ومن هنا تكمن أهمية البحث الذي لم يسبق إلى مثل هذه الدراسة المستهدَفة.

وقد دفعنا إلى اختيار الموضوع أننا – بصفتنا متخصصين في مجال الأدب والنقد – كلما قرأنا الديوان المتمثل في الأعمال الكاملة للدكتور الكوفحي وجدنا أنه يستحق بحق أن تقوم حوله دراسة تبين: أغراضه، وأوزانه، وقوافيه، ونظم الشعر على الطريقة الأصيلة، والحديثة التي تسمى الشعر الحر، وما إلى هنالك من الموضوعات النقدية التي يستحقها هذا الديوان، إلا أن البحث له مجاله؛ لذلك اقتصر على بعض القضايا آنفة الذكر؛ لتحقيق الفائدة، والوصول إلى الهدف المنشود.

وسيعتمد البحث بصورة أساسية الأنموذجات الشعرية في الديوان، وبعض المصادر والمراجع ذات الصلة التي تخدم الدراسة، وتفيدها، ويؤمن الباحثان أن اعتماد الديوان أساس الدراسة هو منهج علمي أصيل، ثم إن الباحثين سيعتمدان المنهج الوصفي، والتحليلي، والإحصائي؛ مع الاستعانة ببعض المناهج الأخرى كلما دعت الضرورة إلى ذلك، ولا شك أن البحث سينتهي بخاتمة، فيها النتائج التي توصل إليها البحث، مردوفة بالمصادر والمراجع التي أفاد من البحث.

الكلمات المفتاحية: (الأوزان)، (الموسيقا)، (القافية)، (الكوفحي).

Research Article

Metrics, Rhythm and the Role of Rhyme in the Poetry of Ibrahim Al-Kufahi

Prof. Hashim S. Manna1  & Shifaa M. Yasin 2

1 Professor of Postgraduate Studies in Criticism and Literature, Ex-Dean of the College of Arts, Isra University, Jordan.

Email: drhmanna@hotmail.com

2 Ex-Lecturer of Arabic language , Zayed University – Abu Dhabi – UAE.

HNSJ, 2021, 2(10); https://doi.org/10.53796/hnsj21014

Published at 01/10/2021 Accepted at 20/09/2021

Abstract

This study discusses the effects of rhyme on the rhythmic patterns and music of the Poetry of Dr. Ibrahim Al-Kufahi with special reference to the Complete Works published in his Diwan.  His works, which vary from classical formal poetry to modern free verse, are studied according to their adherence to the traditional Arabic Prosody, formal rhyme and other important contents. Moreover, as researchers in literature and criticism, we believe that a textual reading of his Diwan, the Complete Works, will show the aims and aesthetical treasures of his works.  Therefore, we undertook this task of studying samples of the poetical works of Al-Kufahi, exploring the metres, rhythms and rhymes used by him and their overall influence on the objectives and music of poetry.  The study uses the analytical, descriptive and statistical methods in addition to using any other necessary tools. A conclusion will be added to show the research findings.

Key Words: meters, rhythm, rhyme, Al_kufahi.

مقدمة:

تُعد الأوزان الشعرية وموسيقاها في شعر الدكتور إبراهيم الكوفحي، وأثر القافية فيها، من الموضوعات المهمة التي تكشف عن القيمة الفنية للوزن والموسيقا والقافية في شعر الشاعر، ومن هنا جاء هذا العنوان المثبت أعلاه.

مشكلة البحث وفرضيته:

يؤمن الباحثان أن مشكلة البحث تكمن في عدم وجود دراسات سابقة لهذا الديوان، ومن ثم جاءت الدراسة؛ لتبلور نتائج مهمة حوله، لا سيما في الموضوعات التي سيتم تناولها في هذا البحث؛ لما لها من أهمية في فتح المجال أمام الدارسين؛ للقيام بدراسات أخرى حول الديوان.

أسباب الدراسة ودوافعها:

تقوم الدراسة حول ديوان ضخم، فيه تنوع في الأغراض، والأوزان، والموسيقا، والقافية، والروي، وفيه الشعر قسمان: قسم على نظام الشعر العمودي الأصيل، وآخر يقوم وفق نظام الشعر الحر؛ لذلك شرعنا في كتابة هذا البحث؛ لنبين أهميته من خلال: تحليل، وإحصاء لأوزان القصائد، وقوافيها، ورويها، وعدد أبياتها، وبيان فائدة ذلك؛ لتفتح أبواباً أخرى لدراسات تتناول أشعار الدكتور الكوفحي.

منهج الدراسة:

المنهج الوصفي، والتحليلي، والإحصائي، وهو منهج يصف القضايا المتناولة وبياناتها، ثم يضاف إليه الإحصائيات الدقيقة، وفق ما تقتضيه هذه الدراسة، والتحليل المناسب لها، وفق المعطيات، حتى تكون المخرجات سليمة.

مباحث الدراسة:

ستتركز الدراسة على المباحث الآتية:

مقدمة: تعريف بالشاعر، وديوانه.

المبحث الأول: مفهوم الشعر، والوزن، والقافية، والموسيقا.

المبحث الثاني: إحصائيات الأوزان، والقوافي، والأغراض الشعرية، والشعر العمودي، والشعر الحر، وعدد أبيات الشعر في قصائد الديوان…

المبحث الثالث: الدراسة التحليلية للإحصائيات، وبيان أهميتها.

الخاتمة والنتائج والمصادر والمراجع.

أهمية الدراسة:

تتجلى أهمية البحث في أنه لم يسبق إلى مثله، في الموضوع نفسه، بوصفه أحد الشعراء المعاصرين الذين أبدعوا في تنوع الشعر، من حيث: الأصالة والحداثة، إذ تمكن الشاعر من أن يتبوأ مكانة مرموقة بين الشعراء المعاصرين، كما ستظهر أهمية الدراسة من خلال ما سيقوم به الباحثان من عرض، وتحليل وإحصاء للنصوص الشعرية في الأعمال الكاملة للدكتور الكوفحي، ومن ثم إثبات النتائج التي توضح هذه الأهمية، وتبيّن فائدة الدراسة.

التعريف بالشاعر:

ولد الأستاذ الدكتور إبراهيم محمد الكوفحي في مدينة إربد عام (1967)، وحصل على البكالوريوس في اللغة العربية وآدابها، من جامعة اليرموك عام (1989)، وحصل عام (1992) على الماجستير في الأدب والنقد من جامعة اليرموك، وعلى الدكتوراه في الأدب والنقد الحديث من الجامعة الأردنية عام (1998).

وعمل أستاذاً مساعداً في قسم اللغة العربية وآدابها في الجامعة الهاشمية منذ عام (1998)، كما أنه ولي التدريس في عدة جامعات أردنية وعربية (خليجية)، وعمل رئيساً لقسم اللغة العربية وآدابها، في الجامعة الأردنية، وهو الآن نائب عميد كلية الآداب لشؤون الدراسات العليا والبحث العلمي ، كلية الآداب، الجامعة الأردنية.

مؤلفاته: له مؤلفات كثيرة، نذكر منها:

  1. مصطفى صادق الرافعي: الناقد والموقف، دار البشير، عمان، مؤسسة الرسالة، بيروت، ط1، 1997. (بدعم من وزارة الثقافة).
  2. محمود محمد شاكر: سيرته الأدبية ومنهجه النقدي، دار البشير، عمان، مؤسسة الرسالة، بيروت، ط1، 2000م. (بدعم من وزارة الثقافة).
  3. شعيب الأرنؤوط: جوانب من سيرته وجهوده في تحقيق التراث، دار البشير، عمان، 2002.
  4. من أعلام الفكر والأدب في الأردن (تحرير)، دار البشير، عمان، 2002م.
  5. شعر عبد المنعم الرفاعي، (جمع وتحقيق)، الشركة الجديدة للطباعة والتجليد، عمان، 2003.
  6. مرايا وظلال : قراءات ومراجعات نقدية، منشورات وزارة الثقافة، عمّان، 2005م، سلسلة كتاب الشهر، رقم (100).
  7. من شهداء (الكرامة) : سلطان محمود الكوفحي، عمّان، 2006م.
  8. خواطر الرافعي في تفسير القرآن وإعجازه، (جمع وتحقيق)، الشركة الجديدة للطباعة والتجليد، عمّان، 2006م.
  9. محنة المبدع : دراسات في صياغة اللغة الشعرية، منشورات أمانة عمّان الكبرى، 2006م.
  10. ديوان إربد الشعري، (جمع وتقديم)، منشورات وزارة الثقافة، عمّان، 2007م.
  11. معجم أدباء إربد : الشعراء، منشورات وزارة الثقافة، عمّان، 2008م.
  12. الأعمال الشعرية ، دار الإسراء للنشر والتوزيع ، عمّان ، 2019 .
  13. صادق خريوش : حياته وشعره ، دار الخليج للنشر والتوزيع ، عمّان ، ط1، 2020 .( بالاشتراك مع د. محمد القضاة) .
  • وله ما يزيد على عشرين بحثاً منشوراً في مجلات علمية محكمة.
  • وله عشرات المقالات المنشورة في موضوعات متنوعة، لا سيما في مجالي الأدب واللغة.
  • شارك ببحوث في مؤتمرات علمية، كما أنه شارك في اللجان التحضيرية لعقد بعض المؤتمرات الدولية.
  • وهو عضو استشاري في هيئات، ومجلات، وجوائز.
  • عضو في كثير من الجمعيات العلمية والثقافية، منها: اتحاد الكتاب العرب، واتحاد الكتاب والأدباء الأردنيين.
  • أشرف على كثير من الرسائل العلمية للماجستير والدكتوراه، في الأردن وخارجها.
  • ناقش عشرات الرسائل لدرجتي الماجستير والدكتوراه، في الأردن وخارجها.
  • وقد أحيا كثيرًا من اللقاءات والأمسيات الشعرية في الوطن العربي، وشارك في الكثير من الندوات والمؤتمرات العلمية الدولية.
  • وقد فاز بجائزة اللجنة الوطنية العليا لإعلان عمان عاصمة الثقافة العربية لعام 2002م، في مسابقة التأليف والنشر.

أما ديوانه، فقد صدر كما أشرنا تحت عنوان: “الأعمال الشعرية الكاملة” للدكتور إبراهيم الكوفحي، دار الإسراء للنشر والتوزيع، عمّان، 2019، علماً أن هذه الأعمال كانت قد صدر منها مجموعة كبيرة، في دواوين صغيرة، أو منها ما تم نشره في الصحف والمجلات الأردنية والعربية، ولما وَجَد أن القصائد كثيرة، خشي أن يبقى بعضها في ثنايا الكتب، وبعض منها قد ينسى مكانه، ما دفعه إلى أن يجمع الأشعار كاملة، حتى يضمها ديوان بين دفتيه، يحافظ عليها من الضياع.

ولا شك أن من يتصفح الديوان يجد أن ما يمتلكه الشاعر من طاقات ومهارات وإبداعات قد أخفى بعض قصائده، أو أحجم عن نشره، وقد يكون وراء ذلك أسباب نذكر منها: أسبابًا شخصية، ونفسية، واجتماعية، وسياسية… وهذا وارد عند كثير من الشعراء، لا سيما أنه في بعض المراحل العمرية قد ينظم قصائد في الغزل، ولكنه لمّا يتسنم مناصب عليا في الجامعة، فإنه لا يحبذ أن ينشرها الآن، من الناحيتين: الوظيفية والاجتماعية، كما أن نزق الشباب قد تدفع الشاعر إلى نظم بعض القصائد، لا سيما ما تعلّق منها بالسياسة، فهذه قضية تُحتِّم إخفاء ما تم نظمه، وقد تؤدي إلى تمزيقه، وحرقه، ذلك أن الشاعر عبّر عمّا يجول في خاطره في لحظة شعورية، ثم أيقن أن هذه اللحظة الشعورية قد تكون مضرة، أو مدمرة، فهو بغنى عنها، والمهم في الأمر أن هذا الديوان جمع الأعمال الشعرية الكاملة في موضوعات كثيرة، ارتضى الشاعر أن ترى النور في هذا الديوان، وهو ثري في لغته، غني في صوره، عميق في دلالته، عذب في أوزانه.

بقي أن أذكر – ههنا – قضية مهمة، وهي أن الشاعر قد جمع في ديوانه بين اتجاهين: الأصالة، والحداثة، أي: سار على النمط التقليدي، نظام الشعر العمودي، ونمط الحداثة المتمثل في الشعر الحر، أو شعر التفعيلة… وهذا ما سنبينه فيما بعد.

المبحث الأول: مفهوم الشعر، والوزن، والقافية، والموسيقا

أولاً: الشعر: إن الحديث عن الشعر حديث شائق، قد يطول؛ لأن كثيراً من المصادر فاضت بالحديث عنه (مناع، 2017، الأدب، ص100)، ولكن سنوجز القول؛ للاختصار، فالشعر يصدر عن عاطفة وإحساس وشعور في مرحلة اللاشعور، واللاوعي، عن طريق الإيحاء والإلهام، فهو يمثل مهارة وإبداعاً، وليس الحديث ههنا عن الشعر التعليمي، أو العقلي، أو المنظوم، وما شابه، ولكن الحديث عن الشعر بوصفه تعبيراً فنياً إبداعياً جميلاً، بلغة اللسان، عن معاناة إنسانية، فهو يمثل حالات النفس البشرية، في كل ما تضطرب به من أشتات الرؤى، وخواطر الفكر والوجدان، فمادة التعبير فيه هي اللغة وأساليبها، وما تحمله من دلالات، إلى جانب الأنغام في الموسيقا (يعقوب، وعاصي، 1987، 2/737)، وقد أسهبت المعاجم في تعريفه، نكتفي بما أورده ابن منظور فيما يخص مفهومه بقوله: “فالشعر منظوم القول، غلب عليه لشرفه بالوزن والقافية…”(ابن منظور.د.ت، شعر)، إذن، فالشعر نوع من الكلام المنغم المموسق، فتن العرب به، لما فيه من وزن وتنغيم، ولما يتميز به من النفاذ إلى أسرار الكون، وحكمة الدهور، وحقائق الأشياء وجوهرها، ولا يقف عن ظواهر الأشياء، (حسين، 1970، ص35)، وقد عرفه قدامة بن جعفر بأنه: “قول موزون مقفى يدل على معنى” (جعفر، 1978، ص64)، وأما ابن رشيق فيعرفه بأنه الشعر الذي “يقوم بعد النية من أربعة أشياء، وهي: اللفظ، والوزن، والمعنى، والقافية فهذا حدّ الشعر”(القيرواني، 1988، 1/119)، وبعد هذا يمكننا أن نعرفه بأنه تعبير عن إحساس، وشعور في لحظة إلهام وإيحاء، ينطلق من سجية الشاعر عن طريق التعبير الفني باللغة التي تحمل دلالات عميقة، تنفذ إلى جوهر الأشياء، من خلال ظاهرها…

ثانياً: الوزن: يعد الوزن من أهم أركان الشعر الصحيح ومقوماته، ويرى ابن رشيق أن: “الوزن أعظم أركان حد الشعر، وأولاها به خصوصية، وهو مشتمل على القافية، وجالب لها” (القيرواني، 1988، 1/120)، ويقول ابن طباطبا: “للشعر الموزون إيقاع يطرب الفهم؛ لصوابه، وما يرد عليه من حسن تركيبه، واعتدال أجزائه، فإذا اجتمع الفهم مع صحة وزن الشعر، وصحة المعنى، وعذوبة اللفظ فصفا مسموعه ومعقوله من الكدر، تم قبوله واشتماله عليه، وإذا نقص جزء من أجزائه التي يعمل بها، وهي اعتدال الوزن، وصواب المعنى، وحسن الألفاظ، كان إنكار الفهم إياه على قدر نقصان أجزائه” (ابن طباطبا، 2005، ص21)، فالوزن هو القياس الذي يعدّه الشاعر، ويهتدي به القارئ إلى السليم من الوزن، فالعبرة -على ما يبدو- إنما تكون بالتأثر والتأثير، لا باصطفاف الألفاظ، ورصف القوافي؛ ليصبح شعرًا منظومًا، يخلو من العاطفة؛ لأن التجربة الشعورية لها أثرها الخالد في نفس المتلقي، فهذا الخطيب التبريزي يقول: “اعلم أن العروض ميزان الشعر، بها يُعرف صحيحه من مكسوره، وهي مؤنثة، والشعر كله مركب من سبب ووَتِد، وفاصلة… والعروض ليس بالعلم الهين، فإن خطره من خطر الشعر، وإنه لخطر عظيم، والعروض هو العلم الذي يدرس الوزن، والوزن هو صورة الكلام الذي نسميه شعرًا”(التبريزي، 1994، ص4، ومناع، 2017، العروض، ص13)، ولا شك أن الشعر العذب ذا التأثير الفاعل في الوجدان، وذا اللمح الذي تكفي إشارته، هو ذلك الشعر المبني على الوزن والقافية، وإذا ما خرج عنهما، لم يَعُد له ذلك الإيقاع، بل لم تعد تطرب إليه الآذان، ولن تهتز له القلوب، ما لم يكن الشاعر مُلهَمًا متمكنًا من إبداعه الشعري، يتفنن في التجديد والتطوير والتحديث، ولما كان الإيقاع دائمًا أقوى من النغمة في التأثير في الأذن، كان لارتباط الشاعر التقليدي بالصورة الوزنية التقليدية للقصيدة أثره في تكييف المعنى المقصود من موسيقى الشعر، سواء عند الشعراء، أم النقاد القدامى، وقد نتج عن ذلك الاهتمام بموسيقى الشعر من حيث هي إيقاع ثابت في الأوزان يستطيع الشاعر حين يتبعه بدقة أن يستولي -على أقل تقدير- على آذان المستمعين، ومن الثابت أن الخليل هو واضع أصول علم العروض وقوانينه التي لم يطرأ تغيير جوهري عليها، ومن هنا كانت موسيقى القصيدة التقليدية شيئًا تطرب له الآذان، قبل كل شيء، إذ إنها ألِفتْه، وتعايشت معه بصفته تراثًا أصيلًا (عتيق، 1987، ص10)، ولا نريد أن نتعرض ههنا للتعريفات التي وردت بشأن الشعر الحر، أو شعر التفعيلة، أو السطر الشعري؛ لأنها اجتهادات كثيرة، وأستاذة هذا الميدان هي الشاعرة نازك الملائكة، إذ نرى أنها لم تعنَ بهؤلاء المتشاعرين الذين يلبسون عباءة الشعر الفضفاضة، إنما عُنيت بالشعر الذي طوَّر نفسه شكلًا ومضمونًا، فالتزم تكرار التفعيلة بشكل منتظم في مواطن، وسار على وزن معين، فهو لا يخرج عن ضوابط الشعر القديم في أوزانه، بل التزمه شكلًا واضحاً، ولكن تأطَّرَ وفق الشكل الحديث المعاصر نوعًا من التجديد والتطوير والتحديث.

ثالثاً: القافية: الشعر بلا قافية كالجسد بلا روح؛ لأنها أساس تولد كماً موسيقياً، وتضبط الوزن، على وتيرة واحدة دون خلل، أو قصور، ولها حروف، وقد يلحقها عيوب، وأهم هذه الحروف، حرف الروي… وقد أورد التبريزي جملة من التعريفات الخاصة بالقافية، فمن ذلك ما قاله الفراهيدي عن القافية من أنها: “هي آخر البيت إلى أول ساكن يليه مع المتحرك الذي قبل الساكن”، وما قاله الأخفش: “هي آخر كلمة في البيت أجمع”، ثم يقول: من العلماء من يسمي البيت قافية، ومنهم من يسمي القصيدة قافية، ومنهم من يجعل حرف الروي قافية (التبريزي، 1979، ص220، وابن منظور، د.ت. قفا)، وكما نلاحظ فإن ما ذهب إليه الأخفش يتمثل في الكلمة الأخيرة، دون شروط، أما الخليل فإنه يرى أنه ربما تكون القافية في كلمة، أو في جزء منها، أو في كلمتين، أو أكثر، ونحن نؤيد الخليل فيما ذهب إليه؛ لأنه إلى المنطق أقرب، وإلى التطبيق أثبت، وقد ترد حروف القافية في أكثر من كلمة، أو تقع في جزء منها…

رابعاً: الروي: هو الحرف الأساس في القافية، أي: آخر حرف صحيح في البيت الذي تقوم عليه القصيدة، وإليه تنسب، وهو جزء من القافية (مناع، 2017، العروض، ص252)، فيقال: قصيدة همزية، أو بائية، أو دالية، أو نونية…

خامساً: الموسيقى: لا شك أن الوزن والموسيقى صنوان لا يفترقان، فكل له وظيفته، لكن الموسيقى تتولد من الوزن، والنغم الموسيقى ميزان الوزن، إذن، فالموسيقى أساس الشعر الفني، تلتذ أذن السامع له، فتصل المعاني من خلال الكلمات المنغمة المموسقة التي تحمل في طياتها قوة التأثير، وهناك من يرى أن “موسيقى الشعر أمران: النغم المنتظم، وهو التفعيلات، وجرس الألفاظ… وأن أنواع الشعر تناسب بحورًا مختلفة، فاختلاف أوزان البحور نفسه، معناه أن أغراضًا مختلفة دعت إلى ذلك…” (الطيب، 1989، 1/93).

إن التأثير الذي تثيره موسيقى الوزن والقافية ترافقه المعاني، يتميز بالتآلف والانسجام؛ ليجعل العمل الشعري أكثر موسيقية، وأشد تأثيرًا لدى المتلقي، وأرقى نغمًا من حيث الموسيقى الداخلية، ولكن هذه العناصر “الوزن والقافية” ليست الوحيدة التي تعمل على هذا التآلف الموسيقي، والانسجام الإيقاعي، عند المتلقي، فهناك مؤثرات إيقاعية أخرى، تأخذ بالألباب، وتلزمها جوانب فنية وإيقاعية أخرى، ولها علاقة مباشرة بالبلاغة، والبديع، وهي ما تسمى بالموسيقى الداخلية التي تتعانق والموسيقى الخارجية؛ لتُكسب الشعر رونقًا وجمالًا، وسنلمح إلى الموسيقى الداخلية في بحثنا إلماحًا؛ لأن البحث يضيق عن تفصيلها…

المبحث الثاني: إحصائيات الأوزان، والقوافي، والأغراض الشعرية، والشعر العمودي، والشعر الحر، وعدد أبيات الشعر في القصائد، في ديوان الشاعر الكوفحي…

إن شعر الأستاذ الدكتور الشاعر إبراهيم الكوفحي مثال حي للواقع النزيه، والإيمان بالمبادئ والأخلاق والقيم، وأسوة في الرقي، والحنين والوفاء للأسرة، والمجتمع، والصديق، وحب الوطن، والحنين إلى الديار، والاهتمام بالطفولة والبراءة… وهو مدرسة متنوعة شاملة، وقد كان الشاعر وفيًّا لوطنه، ومجتمعه، وبيئته، إذ عبَّرَ عنها أجمل تعبير، ولا شك أن المتلقي يستطيع بكل سهولة ويسر، تلمُّسِ تلك الجماليات، وتنشُّق عبقها، وقد اعتمد الباحثان في هذا البحث ديوان الشاعر الكوفحي (الطبعة الأولى، الصادرة عن دار الإسراء، عمان 2019)، وهو ديوان كبير، من الحجم المتوسط، يحمل بين دفتيه (512) صفحة، بمتنه وفهارسه، ويتكون من (241) قصيدة، و(44) مقطوعة، و(54) نتفة، و(12) مقطعًا، وقد قسم الشاعر ديوانه إلى تسعة عنوانات رئيسة جاءت في أحد عشر غرضًا، مستخدمًا فيها أحد عشر بحرًا، في (1621) ألفٍ وستمائة وواحد وعشرين بيتًا، فكانت العنوانات تتضمن الآتي:

جدول ترتيب القصائد الشعرية المستخدمة في ديوان الأعمال الشعرية للأستاذ الدكتور الشاعر إبراهيم الكوفحي:

م العنوان عدد القصائد عدد الأبيات قصائد الشعر العمودي النسبة قصائد شعر التفعيلة النسبة
1) الفأس والجحيم 43 340 34 79% 9 29.9%
2) منبع الأحلام 17 180 14 82.3% 3 17.6%
3) في ربى الخلد 9 121 8 88.8% 1 11.11%
4) صيحة في وادي عبقر 13 151 9 69.2 4 30.7%
5)

6)

أضواء شاردة (النتف) 54 110 54 81.81%
أضواء شاردة (المقاطع) 12 18% 12 18%
7) ليالي العوالي 33 257 32 96.9% 1 3%
8) صور 30 226 24 80% 6 20%
9) نقوش قديمة 19 198 18 94.7% 1 5%
10) مجموعة للأطفال 11 38 4 36% 7 63.6%
المجموع: 241 1621 197 81.7% 44 18.2%

ومن الجدير بالذكر أن الجدول السابق يعطي رؤية واضحة عن استخدام نمطين من الشعر: (الشعر العمودي)، و(شعر التفعيلة)، ولا شك أنهما يمثلان الأصالة والحداثة، كما أن نسب استخدام الشعر العمودي وشعر التفعيلة تعكس اهتمام الشاعر الأستاذ الدكتور الكوفحي البالغ بتلك الأصالة التي تعبق بالتراث، وتحافظ على الأوزان التقليدية؛ لأنها تبقى أساسًا لكل حداثة، فلا حداثة دون أصالة، ولكن هناك أصالة دون حداثة، وإن كانت بحاجة إليها؛ لنقدها وتصويب مسارها، وتطويرها، ومع قلة نسبة شعر التفعيلة في هذا الديوان، إلا أنه يظل نصيبًا مقبولًا يمثل اتجاهًا حديثًا قَبِلهُ المتلقُّون؛ لما فيه من إيقاع، وقوة تعبير، ودفقة انفعال، فالشاعر أظهر براعته، وقدرته على التنويع، وركوب الموج العاتي، بسفينة متينة، أوصلته إلى بر الأمان، ومعه لآلئ أشعارِهِ، قوية المعاني، متينة المباني، عميقة الدلالة، ويجدر أن يتم تثبيت جدول بتلك البحور الشعرية المُعتبرة عند العرب؛ لبيان نسب استخدامها في الديوان.

  1. والجدول الآتي يبين ترتيب البحور الشعرية، ونسب استخدامها في ديوان الأعمال الشعرية للدكتور الشاعر إبراهيم الكوفحي:
م البحر الشعري نوعه عدد القصائد النسبة المئوية
1) الطويل التام 16 11%
2) البسيط التام 18 12.4%
3) الوافر التام 9 6%
4) الوافر المجزوء 6 4%
5) الكامل التام 29 20%
6) الكامل المجزوء 11 7.5%
7) الهزج التام 2 1.3%
8) الرجز التام 3 2%
9) الرجز المجزوء 2 1.3%
10) الرجز المشطور 1 0.6%
11) الرمل التام 8 5.5%
12) الرمل المجزوء 3 2%
13) السريع التام 6 4%
14) الخفيف التام 17 11.7%
15) المتقارب التام 12 8.2%
16) المتدارك المجزوء 2 1.3%
المجموع 11 145 98.8

الدراسة والتحليل:

وأمام هذا الفيض الفائض من القضايا المتناولة في شعر الأستاذ الدكتور إبراهيم الكوفحي، يرى الباحثان – وفق الجدول الأول – أن كل محور من هذه المحاور العشرة يُشكِّلُ في ذاته موضوعًا يستحق نظم ديوان متكامل فيه، والحق يقال: إنه لمن الصعوبة بمكان أن يعرض الدارس لديوان الأستاذ الشاعر الدكتور إبراهيم الكوفحي في بحث واحد، أو حتى في كتاب واحد، وهو شأن بعيد المنال؛ لوفرة معانيه، وتعدد موضوعاته، وغزارة مضامينه، ورصانة مبانيه، ودقة ألفاظه، وروعة موسيقاه التي تتجلى في مناسبتها لتلك الأوزان المتموسقة مع تلك الموضوعات؛ لذا فقد ارتأى الباحثان انتقاء بعض الأنموذجات للقصائد، وبعض الشواهد الشعرية من مواطنها، من باب ذكر الغيض من الفيض، في ثوبٍ قشيبٍ مُحلّىً في ربط الأصالة مع الحداثة، والمحافظة مع التطوير بطريقة فنية شائقة.

ويتضح من الجدول السابق أيضًاً:

  1. أن الشاعر لم ينظم على بعض البحور مثل: (المقتضب)، و(المضارع)، و(المنسرح)، و(المحدث)، و(المجتث)؛ لأن أوزانها، لم تكن طَيِّعةً لتلك الموضوعات التي تناولها الشاعر، وعبّر عنها في شعره، فكانت تلك الأوزان الأخرى أكثر ملاءمة من هذه الأوزان التي لها طبيعتها الخاصة، من وزن وزحاف، وعلة، واستيعاب لطبيعة الموضوعات، مع العلم أن هذه الأوزان قد شاعت في بعض العصور، لا سيما في العصر العباسي، وذلك لأسباب الغناء والرقص، ومنها أيضاً ما يشابه المجزوء؛ لأنها تقوم على تفعيلتين في كل شطر، أما ما ينظم من شعر في عصرنا الحاضر، فإنه غالباً، لا ينظم للغناء، إنما هو تعبير مباشر عن تأثير بما يحيط بالشاعر من بيئة، وما يتعرض له من مشكلات، وما يشاهده من أحداث، وما يلاحظه من قضايا لا يتفق معها، فيقوم بإفراغ طاقته الشعرية الإبداعية، حتى يتخلص من الضغط النفسي في تلك اللحظة الانفعالية، وبعد أن يولد العمل الفني الشعري، يحتفظ به الشاعر، وقد لا يبوح به للأسباب كثيرة، منها: سياسية، واجتماعية، واقتصادية، ونفسية، ووظيفية، ودينية…
  2. أن الأوزان التي استعملها الدكتور الشاعر إبراهيم الكوفحي قد شملت الأوزان الصافية، والأوزان المزدوجة التي كانت أكثر ملاءمة للموضوعات التي طرقها الشاعر، لا سيما تلك الأوزان الصافية، مثل البحر الكامل الذي يستوعب تلك الزفرات التي ينفثها الشاعر معبرًا عنها بتلك الأوزان، ولا شك أن الأوزان التي تعتمد التفعيلة المتكررة، هي أكثر سهولة في التعبير، وأكثر تحملاً للآهات التي ينفثها الشاعر، وأكثر استيعاباً للزفرات التي يقذفها المبدع، أما بالنسبة إلى الأوزان الممزوجة فهي أوزان مثالية، متوازنة في تفعيلاته، منتظمة في دوائرها العروضية، ومتفقة إلى حد ما في تتابع أسبابها وأوتادها، وعلى أية حال، فإن الأوزان الشائعة عند العرب – لا سيما في الجاهلية – تكاد تكون هي: الطويل والكامل والبسيط والوافر والخفيف، وهي الأكثر وروداً في شعر الكوفحي، ما يدل على أنه صاحب ذوق رفيع، في تذوق هذه الأوزان التي ألفها العرب، ونظموا عليها بكثرة، وهذا يدلل على تجربته العميقة، وخبرته الطويلة، في تلمس الجوانب الجمالية، والأحاسيس المرهفة في تلك الموسيقى المنبعثة من هذه الأوزان، سواء أكانت داخلية، أم خارجية.
  3. كما نلاحظ أن الشاعر لم يَمِلْ إلى نوع خاص من البحور الشعرية، ويكثر منه، وهذا يُحسب للشاعر الكوفحي، وهذا يدل على غزارة علمه، وموفور شعره، وثراء أوزانه، وتنويعه الذي يعرج عليه بكل سهولة ويسر، إذ يشعر المتلقي بالسكينة، والراحة النفسية، ويعيش مع الشاعر في أوزانه وموسيقاه، وكأن تلك التجربة الشعورية التي يعيشها الشاعر هي تجربة المتلقي نفسها، مرَّت به، وعايشها، وعاناها، وتذوق آلامها، وأفراحها…

الجانب التطبيقي للوزن والقافية:

فيما يلي دراسة إحصائية لبعض الأوزان، وقوافيها، وأشكالها، في ديوان الشاعر الدكتور إبراهيم الكوفحي؛ للوقوف عند أهم خصائص شعره، والبنية الوزنية، وأبعادها الإيقاعية في تلك القصائد المنتقاة، وذلك من خلال الجدول الآتي:

القصيدة المحور الغرض الشعري البحر العروضي عدد الأبيات نوع القافية شكل القافية الموسيقى الداخلية
1- الراحة الكبرى (ص61) الفأس والجحيم الفخر

والحنين

مجزوء الكامل 28 مقيدة مُنَوَّعة التصريع
2- آه لو نمضي صديقين (ص87) الفأس والجحيم العتاب مجزوء الرمل 23 مُطْلَقَة مُنَوَّعة التكرار
3- على ريش البراق (ص99) الفأس والجحيم الشكوى

والهجاء

الكامل 19 مُطْلَقَة مُوَحَّدة التصريع
4- وحدي مع الحزن (ص109) منبع الأحلام الشوق والحنين البسيط 51 مُطْلَقَة مُوَحَّدة تصريع-تكرار-تضمين
5- وشوشات إربدية (ص122) منبع الأحلام الحنين إلى الوطن المتقارب 17 مُطْلَقَة مُوَحَّدة التكرار
6- هو موطني الحاني (ص149) منبع الأحلام الحنين إلى الوطن الكامل 5 مُطْلَقَة موحدة التصريع- والتكرار
7-أخي محمود (ص160) في ربى الخلد الرثاء الكامل 22 مُطْلَقَة مُنَوَّعة التصريع والتكرار
8- في محنة الشعر (206) صيحة في وادي عبقر الرثاء مجزوء الكامل 52 مُطْلَقَة مُنَوَّعة التصريع والتكرار
9-شِعرِي (ص277) أضواء شاردة في الفخر الطويل 2 مُطْلَقَة نتفة المقابلة

والتكرار

10-نقد الحاقدين

(ص291)

أضواء شاردة الهجاء الوافر قطعة مُطْلَقَة قطعة التكرار
11-نسائم (الهَدا) (ص302) ليالي العوالي الوصف المتقارب 12 مُطْلَقَة مُنَوَّعة التصريع والجناس
12- مع الشاعر (علاء العرموطي) (326) ليالي العوالي الإخوانيات

(المعارضات)

مجزوء الكامل 40 مُقَيَّدة مُوَحَّدة التصريع والجناس والطباق
13- أبان (ص433) نقوش قديمة الحنين إلى الوطن السريع 15 مُقَيَّدة مُوَحَّدة التصريع والجناس
14-(مجموعة للأطفال)

زيد العز (ص493)

تحت شجرة التوت الوطن مجزوء الوافر 8 مُقَيَّدة مُنَوَّعة التكرار والجناس

ويمكننا تحليل معطيات الجدول، على النحو الآتي:

  1. إن الأوزان والأضرب قد تفاوتت عند الشاعر الدكتور إبراهيم الكوفحي، فقد تنوعت استخداماته للأبحر الشعرية، مثل: (الطويل) و(البسيط)، و(الكامل) …
  2. إن الشاعر لديه مَلَكةٌ شعرية، وموهبة فطرية، استطاع أن يظهرها من خلال استخدامه لمعظم البحور الشعرية، لا سيما تلك البحور المعتبرة عند العرب في عصور الاحتجاج وغيرها، من مثل: (الطويل) و(البسيط)، و(الكامل)، وهذه البحور أعمدةٌ راسخةٌ يتكئ عليها فحول الشعراء؛ لأنها تستوعب آهاتهم، وزفراتهم، وأحاسيسهم، كما أن المتلقي استأنسها، ووجد فيها ضالته، فرحه وسعادته، حزنه وألمه، تأسيه ومواساته، حياته وبيئته، حنانه وعطفه، فقد كان ينشدها في الأسواق، ويغنيها في المجالس، ويحدوها في الصحراء؛ ليحث الإبل على السير بهذا الحداء الذي يمثل عند العرب تراثاً وأصالة وانتماء وفناً وتسلية…
  3. ثقافة الشاعر الواسعة، ومهارته وقدرته على استخدام القوافي المقيدة، وانتقاله إلى القوافي الموحدة بكل سهولة ويسر، دون أن يُكلِّف القارئ جهدًا، كما يفعل بعض الشعراء في تكلفهم الانتقال من قافية إلى أخرى، وهذا ينمُّ على أننا أمام شاعر فحلٍ مطبوع تنسابُ أوزانُه بكلِّ تلقائية، وتتهادى قوافيه طربًا على أنغامها.
  4. تنوع الموضوعات التي أدرجها الشاعر في ديوانه يضم تحت ظلّه أغراضًا كثيرة، اختصرها الشاعر في محاور تسعة؛ حمل كل محور منها عنوانًا، ضم تحت جناحيه موضوعات عدة، كي يفيد القارئ، ويدفع عنه السأم والملل؛ ليجذبه بأسلوبه الشائق، دون أن يكلفه جهد العناء في البحث والتنقيب عن الأغراض.
  5. امتلاك الشاعر الموهبة الإبداعية في التنقل من بحر إلى آخر، مع مراعاة الزحافات الجميلة المستحسنة – وليس تلك الزحافات والعلل المقبولة، أو القبيحة – بمهارة فائقة لم تؤثر في الوزن الشعري، بل منحته موسيقى عذبة، ونغمات لطيفة، لم تُشعر القارئ بتلك التنقلات، أو تلك التغيرات عند تغيير القافية، بل أعطته جوًا من الطرب، والحيوية والجاذبية، جعلت القارئ يتمسك بقراءة القصيدة حتى نهايتها.
  6. براعة الشاعر في امتلاك زمام القافية، وتنوعها من حيث التقييد، أو الإطلاق، أدارها الشاعر بعناية فائقة حسب مقتضيات الموقف، والغرض، والمناسبة؛ ما يمنح القصائد جَرْسًا موسيقيًا أخَّاذًا من جهة، ويضفي عليها جوًا من التغيير والتنويع؛ فيسهم في دفع الرتابة والملل عن القارئ من جهة أخرى.
  7. يضاف إلى ذلك كله الموسيقى الداخلية التي أبدع الشاعر في استخداماتها، كالتكرار، والطباق والجناس… ومن الملاحظ على القصائد أن معظمها استُهِلّ بالتصريع الذي هو تقفية المصراع الأول مأخوذ من مصراع الباب، وهما مصرعان، أي متماثلان… وقد عُرِّف التصريع بـأنه: “البيت الذي تكون عروضه تابعة لضربه، تنقص بنقصه، وتزيد بزيادته، فالعروض المقفى مثل الضرب، فكل ما لم يختلف عروض بيته الأول مع سائر عروض أبيات القصيدة إلا في السجع فقط فهو مقفى” (القيرواني، 1988، 1/102)، ولا شك أن التصريع عُرْفٌ جرى عليه فحول الشعراء منذ العصر الجاهلي إلى يومنا هذا، لا سيما في تلك القصائد الطويلة التي تتبدأ بالمطلع المصرع؛ لأن التصريع يزيد في الكم الموسيقي، وكأنه يبدأ الشاعر به حتى يسيطر على مسامع المتلقي بتلك النغمات التي تحمل الكم الموسيقي، وهي أيضًا إنباء ببدء القصيدة، وإيذانٌ بأهمية الموضوع، وقد يكون لها أثرٌ في طول النفس الشعري عند الشاعر.

ولا يتسع المقام؛ للوقوف على كل الأوزان التي وردت في ديوان الشاعر الكوفحي، فإننا سنقف عند أكثر البحور استخداماً في ديوانه، وهو (الكامل) الذي كانت نسبته (20%)؛ وحري بنا أن نبيّن أهم الزحافات والعلل التي تطرأ على هذا البحر؛ لنرى التنوع الموسيقي الناتج عنها، سواء أكان في حذف بعض الحروف، أم زيادتها، أم تسكينها، فقد “سمي (الكامل) كاملاً؛ لتكامل حركاته، وهو على ستة أجزاء، (مُتَفَاعِلُنْ) ست مرات، وله ثلاث أعاريض، وتسعةُ أضرب، فعروضُهُ الأولى: (مُتَفَاعِلُنْ)، ولها ثلاثة أضرب، فضربها الأول مثلها (مُتَفَاعِلُنْ)، والضرب الثاني من العروض الأولى من مقطوع، كان أصله (مُتَفَاعِلُنْ) فأسقطت النون، وسُكّنت اللام، فبقي (مُتَفَاعِلْ)، فنُقل إلى (فَعِلاتُن)، والضرب الثالث من العروض الأولى منه (أحَذّ مُضمر)، و(الأحذُّ): ما سقط من آخره وتِدٌ مجموع، والحذّذ: القطع، فإذا ذهب الوّتِد، فقد قطعته من الجزء، والمضمر: ما سكنَ ثانيه، والعروض الثانية منه حذَّاء، ووزنها (فَعِلُنْ)، ولها ضربان: الأول مثلها (أحذُّ)، والضرب الثاني من العروض الثانية من (أحذ مضمر)، ووزنه (فعلن)، والعروض الثالثة منه مجزوءة، ووزنها (مُتَفَاعِلُنْ)، ولها أربعة أضرب، فضربها الأول (مُرَفَّل)، و(المرفل): ما زيد على اعتداله سبب خفيف… كان (مُتَفَاعِلُنْ) فصُيِّرَ (مُتَفاعلاتنْ)، أبدلت من النون ألف، وزيدَ فيه (تن)، والضرب الثاني من العروض الثالثة، (مذال)، ووزنه: (مُتَفَاعلانْ)، والضرب الثالث من العروض الثالثة من كالعروض، والضرب الرابع من العروض الثالثة (مقطوع)، ووزنه (فَعَلاتن)…” (التبريزي، 1994، ص58)، فهذه هي زحافات (الكامل) وعلله، بيناها حتى تسهل علينا عملية تحليلها في الجدول الذي سنعرضه فيما بعد.

ويرى الدكتور صفاء الخلوصي أن: “الكامل اليوم قد احتل مكان الصدارة في الشعر العربي، وبذلك أنزل بحر الطويل من عليائه” (خلوصي، 1977، ص197)، ولعله يقصد بكلمة اليوم (شعر التفعيلة) الذي يتكئ على تفعيلات البحور الصافية غالباً، وليس البحور الممزوجة التي تتكون من تفعيلتين مختلفتين، أو البحور المشوشة التي قد تأتي على ثلاث تفعيلات مختلفة في كل شطر، إذ استخدام تفعيلة متكررة أكثر سهولة من التفعيلات المختلفة، وأكثر تجاوبًا.

ومن يمعن في قصائد الشاعر الكوفحي التي وردت على وزن (الكامل)، فإنه يمكن أن يصل إلى المعطيات الآتية:

  1. إنه يسبح في خضمّ هذه البحور، وأوزانها، وقوافيها، يلتقط في أثناء غوصه لآلئ الزحافات، ودرر العلل، بما يُزيّن عقود الأوزان، وبحورها؛ ليُضفي عليها جمالًا وبهاءً، ويكسوها جرسًا موسيقيًا.
  2. إنه يمتلك موهبة إبداعية في التنقل بين البحور، وهو مدرك للزحافات الحسنة والمقبولة بكل براعة ومهارة فائقتين، ولم يتكئ على أيٍ من الزحافات التي قد يمجها السمع من مثل: زحاف (الُمعاقبة: القبض والكف) الذي يقع في (الطويل) مثلًا، و(الخَبْلُ: الخَبْن، والطيّ)… ومن خلال التنقل بين تلك الزحافات، ومن خلال تلك التنقلات بين الزحافات المستحسنة فإن القارئ لن يشعر بأية فجوة، أو أي خلل، فهي ولا شك تجعل في الأوزان تناغمًا في الموسيقى، وتنوعًا في النغم، وكل ذلك يتولد من خلال الحذف، أو التسكين، أو الزيادة الجميلة الحسنة المقبولة التي تولّد نغمات في صعود وهبوط متناغمة متناسقة، حتى لا تكون التفعيلات سائرة على نغم فيه تكرار ثقيل على الأذن.
  3. إن الزحافات والعلل هي جوازات في الأوزان؛ لدفع السأم والرتابة والملل عن المتلقي، تعطي تناسبًا إيقاعيًا، ونغمًا وجرسًا، حتى لا تسير تلك الأوزان على وتيرة واحدة، فتصبح كالقلب الذي توقف فيه النبض رمز الحيوية والحياة، وقد كان الأستاذ الشاعر الدكتور الكوفحي فارس الميدان في استخدام تلك الزحافات والعلل، وشاعر الأصالة والتجديد الذي ظل وفيًّا في المحافظة على الأوزان المعتبرة، والقوافي المقررة، والزحافات والعلل المتنوعة التي تغني الشعر وتثريه في الموسيقى والنغم والإيقاع.

الخاتمة:

فقد تم عرض مجموعة من القضايا تتصل بديوان الشاعر الكوفحي، من حيث: الأوزان، والقوافي، والزحافات، والعلل، وبيان إحصائي بتلك الأوزان المستخدمة، فإن البحث قد توصل إلى مجموعة من النتائج، نذكر أهمها:

  1. إن الشاعر الكوفحي شاعر معاصر مجيد لكافة أنواع الشعر العربي بنوعيه العمودي والحديث (شعر التفعيلة)، لم يخرج البتة عن أصول الشعر، وقواعده وزنًا وقافية، إذ التزم المعايير والمقاييس المتبعة في أصالة الشعر عند العرب، وبذلك كان وفياً لعمود الشعر…
  2. إن (شعر التفعيلة) السائد حديثًا يجمع ما بين الأصالة والتجديد، وإن تجربة الشاعر الكوفحي خير دليل على نجاحها في ديوانه الموسوم بالأعمال الشعرية، فقد كان مبدعًا بكل مهارة، وقد أسعفته في ذلك الخبرة الطويلة، والتجربة العميقة، والإبداع المُتوَّج بحِسٍّ مرهفٍ.
  3. إن الأوزان قد انسابت عند الشاعر كالماء السلسبيل الذي يجري بين الربى دون أن يُرهِقَ نفسه بالبحث عنها؛ لأنها كانت ترد وفق التأثير والتأثر، تتلاءم وطبيعة الموضوعات المتنوعة، إذ كان يأنس بها، وتأنس به، تطاوعه بلا عناد، سلسلة القياد.
  4. إن الشاعر وفق إلى الأوزان المعتبرة؛ لأنها تتميز بسماتٍ خاصة بها؛ لأن لها إيقاعاتها الجميلة التي تعتمد الزحافات الحسنة، دون أن يرد عنده بعض الزحافات المرذولة، أو القبيحة، وهذا تميّز، وتفرد؛ لا يحسنه كثير من الشعراء، إلا الفحل المفلق منهم.
  5. إن شعر الدكتور إبراهيم الكوفحي يمتاز بالتنويع، ويتميز بالتشويق، في قصائده من حيث طول القصائد، إذ كانت متناسبة جدًا مع الغرض المستخدم، ومن حيث تنوع البحور، فقد تنوعت بشكل انسيابيٍ هادئ.
  6. إن تنوع الأغراض والموضوعات في ديوان الأعمال الشعرية، أعطى القارئ جاذبية وتعلقًا، قد يصعب عليه أن يتركه دون أن ينتهي من قراءته من ألفه إلى يائه؛ لأهمية الموضوعات التي تمس الحياة والمجتمع.
  7. إن الشاعر أولى القوافي اهتمامًا كبيرًا، إذ إن تنوعها أعطى بعض القصائد جرسًا موسيقيًا واضحًا، تضفي على الوزن طاقة متجددة تطرب له الآذان، وتنسجم معه القلوب، ويعدّ هذا من أهم معطيات التجديد في العصر الحديث، يجذب القارئ، ويضفي عليه تشويقًا، وإثارة قد لا نجدها في الشعر القديم.
  8. إن التكرار والتصريع، والجناس والطباق، يمنح القصائد موسيقى داخلية، يشعر بها المتلقي، فتدفع عنه الرتابة والملل، وهذا ما يشحذ القصائد بشحنات من الجرس الداخلي الممزوج، والموسيقى الخارجية بعذوبة فائقة.
  9. إن الشاعر إبراهيم الكوفحي شاعر مُجيد، يمتاز شعره بجودة الصياغة، وعذوبة الألفاظ، وصدق العاطفة، وجمال الصورة، كما أنه شاعر مُكثر إذ نظم على أحد عشر بحرًا، وقد تجاوز عدد صفحات ديوانه (500) صفحة.
  10. إن الشاعر الكوفحي يمتلك حسًّا مرهفًا، وحكمة رشيدة سديدة، فهو يستخدم الحكمة بطريقة شائقة، طريفة أحيانًا، وقاسية تَهكمِّيَّة أحيانًا أخرى، وفق مقتضيات الموقف.
  11. إن الشاعر الكوفحي نظم على نمط المسمطات، إذ إنه لم يلتزم في بعض قصائده نظامًا موحدًا للقافية، لكنه نوَّع فيها.
  12. إن الشاعر الكوفحي لم ينظم على أوزان: المنسرح، أو المقتضب، أو المضارع؛ لأنها -على ما يبدو- لا تتناسب أوزانها وطبيعة الموضوعات التي تناولها الشاعر، وهي قليلة الاستخدام، حتى عند الشعر، باستثناء العصر العباسي الذي مال إلى استخدام بعض منها؛ لمواكبة ظروف العصر من غناء وما شابه..
  13. إن وزن (الكامل) احتل المرتبة الأولى عند الشاعر الكوفحي في ديوانه؛ لأن (الكامل) وزنٌ معتبر عند العرب، وشائق عند المُحْدَثين، يتسع للنفَسِ الشعري الطويل، والزفرات العميقة.
  14. إن الوزن العروضي من أهم العناصر التي تكسب الشعر هويته، وتبرز موسيقيته، ولم يخرج الشاعر الكوفحي عن إطار الوزن العروضي، ولا قوافيه – على الرغم من تنوعها- في قصائده جميعها، وهذه هي الأصالةُ والفُحولة في المحافظة على الأصيل، مع التحديث والتجديد.
  15. إن ما تقدم من مميزات كانت من نصيب الشاعر الكوفحي، وهي مميزات يُخصُّ بها الشاعر المُجيد؛ لأنه ينظم على ميزان الشعر القديم وبحوره الأصيلة، ويجمع بين عراقة البحور القديمة، ورونق الشعر الحديث، – شعر البحر التفعيلي- ذلك الشعر الذي لم يخرج عن ضوابط الشعر العربي في بحوره الأصيلة، ولا في قوافيه، إنما جمع بين عذوبة الحاضر ورونقه، وأصالة الماضي وجزالته.

التوصيات:

وكان لزاما على الباحثَين أن يثبتا مجموعة من التوصيات المهمة التي لمساها في ديوان الشاعر الكوفحي، فارتأيا أن يدونا توصيتين ثنتين لا غير، هما:

أولاً: ضرورة دراسة ديوان الشاعر الأستاذ الدكتور إبراهيم الكوفحي من حيث دراسة أسلوبية حديثة، من حيث دلالة السياق وأهميته؛ لإبراز الموضوعات التي تناولها الديوان، لا سيما تلك التي تعالج قضايا مجتمعية.

ثانياً: ضرورة وجود دراسة تهتم بالأوزان وموسيقاها في ديوان الشاعر الدكتور إبراهيم الكوفحي؛ لإبراز الموسيقى الداخلية، ومزجها مع الموسيقى الخارجية، في التنوع بين الأصالة والتجديد.

المصادر والمراجع

  • التبريزي، الخطيب (1994)، الكافي في العروض والقوافي، ط3، تح: الحساني حسن عبد الله، القاهرة: .مكتبة الخانجي.
  • جعفر، قدامة (1978)، نقد الشعر، ط3، تح: كمال مصطفى، القاهرة.
  • حسين، محمد محمد(1970)، الهجاء والهجاؤون في الجاهلية، ط3، بيروت: دار النهضة العربية.
  • خلوصي، صفاء(1977)، فن التقطيع الشعري والقافية، ط5، بغداد: مكتبة المثنى.
  • السامرائي، إبراهيم(د.ت)، في لغة الشعر، عمّان: دار الفكر.
  • ابن طباطبا، محمد أحمد العلوي(2005)، عيار الشعر، ط2، بيروت: تح: عباس عبد الساتر، دار الكتب العلمية.
  • الطيب، عبد الله (1989)، المرشد إلى فهم أشعار العرب وصناعتها، الكويت: وزارة الإعلام، حكومة الكويت.
  • عتيق، عبد العزيز (1987)، علم العروض والقافية، مصر: دار النهضة العربية.
  • القيرواني، ابن رشيق (1988)، العمدة في محاسن الشعر وآدابه، ط1، بيروت: تح: محمد قرقزان، دار المعرفة.
  • الكوفحي، إبراهيم(2019)، الأعمال الشعرية، ط1، الأردن عمّا: دار الإسراء للنشر والتوزيع.
  • مناع، هاشم صالح (2017)، الأدب العربي الجاهلي، ط1، عمّان: دار يافا العلمية للنشر والتوزيع.

ــــــــــــــــــــــــ (2017)، العروض والقوافي، ط1، عمّان: دار يافا العلمية للنشر والتوزيع.

  • ابن منظور، محمد بن مكرم (د.ت)، لسان العرب، ط2، بيروت: دار صادر.
  • يعقوب، إميل بديع، وعاصي، ميشال، (1987)، المعجم المفصل في اللغة والأدب، ط1، بيروت: دار العلم للملايين.