الوعي الدلالي في التراث اللغوي: دراسة تحليلية في أصول الفكر الدلالي بين الهند واليونان والعرب

Semantic Awareness in Linguistic Heritage: An Analytical Study of the Origins of Semantic Thought among the Indians, Greeks, and Arabs

هبة الله شريف أغلوا1

1 جامعة إسطنبول آيدن، تركيا.

بريد الكتروني: hebatalnassani@stu.aydin.edu.tr

DOI: https://doi.org/10.53796/hnsj66/2

المعرف العلمي العربي للأبحاث: https://arsri.org/10000/66/2

المجلد (6) العدد (6). الصفحات: 15 - 27

تاريخ الاستقبال: 2025-05-07 | تاريخ القبول: 2025-05-15 | تاريخ النشر: 2025-06-01

Download PDF

المستخلص: يهدف هذا البحث إلى تتبع المفاهيم الأساسية لعلم الدلالة كما نشأت وتطورت عبر الزمن وأهمها في ثلاث حضارات رئيسة: الهندية، واليونانية، والعربية، وذلك من خلال تحليل نظرتهم للعلاقة بين اللفظ والمعنى، ومساهماتهم في هذا المجال. وقد اعتمدت الدراسة المنهج الوصفي التحليلي، مستندة إلى نصوص لغوية وفلسفية أصيلة، للكشف عن الأسس الفكرية التي قامت عليها التصورات الدلالية في كل حضارة. كما تم توظيف المنهج المقارن لإبراز الفروق الدقيقة بين المدارس الدلالية الثلاث، سواء من حيث الخلفية النظرية أو الأهداف المعرفية. وقد بيّنت النتائج أن علم الدلالة كان مرتبطًا ارتباطًا وثيقًا بالسياقات الدينية والفلسفية في الحضارة الهندية، وبالفكر العقلي والمنطقي في الفلسفة اليونانية، بينما اتخذ طابعًا لغويًا–شرعيًا عند علماء العرب، فكان أداة لفهم النصوص وتوليد المعاني. ويقدّم هذا البحث رؤية شمولية تبرز العمق التاريخي لعلم الدلالة، وتؤسس لفهم أوسع لمسارات تطوره في الفكر الإنساني.

الكلمات المفتاحية: علم الدلالة، الحضارة الهندية، الفلسفة اليونانية، المقارنة الدلالية، التراث العربي، تطوّر المفاهيم اللغوية.

Abstract: This research aims to trace the foundational concepts of semantics as they emerged and developed across three major civilizations: Indian, Greek, and Arab. The study analyzes each civilization’s perspective on the relationship between word and meaning, and highlights the contributions of key scholars in this field. Utilizing a descriptive and analytical methodology, supported by original linguistic and philosophical texts, the research explores the intellectual foundations of semantic thought in each tradition. A comparative approach is also adopted to clarify the nuanced differences between the three semantic schools in terms of theoretical background and epistemological aims. The findings reveal that semantics in the Indian tradition was closely linked to religious and philosophical contexts, while in the Greek tradition it was shaped by rational and logical thought. In the Arab tradition, semantics developed within linguistic and jurisprudential frameworks, serving as a tool for interpreting texts and generating meaning. This study presents a comprehensive vision that underscores the historical depth of semantics and lays the groundwork for a broader understanding of its evolution human thought.

Keywords: Semantics, Indian civilization, Greek philosophy, Arab heritage, semantic comparison, development of linguistic concepts.

المقدمة:

تُعدّ اللغة ظاهرة إنسانية فريدة من نوعها، من خلالها يستطيع الإنسان أن يعبّر عن أفكاره، ويتواصل مع محيطه، ويبني حضاراته ليبقى أثرها عبر العصور. ومن بين علوم اللغات المتعددة، يحتلّ علم الدلالة مكانة بارزة ومرموقة لأن لديه صلة مباشرة بلبّ اللغة وجوهرها الحقيقي في المعنى. بمعنى أخر أنه العلم الذي يُعنى بالعلاقة بين الألفاظ ومدلولاتها، ويسبر أغوار اللغة من حيث ما توحي به الألفاظ من معنى، وأيضاً يرينا كيفية استخدام المعاني في السياقات المختلفة عامةً. وقد عُنيت الحضارات المختلفة – كالهندية واليونانية والعربية – بهذا العلم منذ قرون عديدة، وسعت إلى تطوير نظرياتها وتحليل مفاهيمها، كلٌّ بحسب أدواته المعرفية والفكرية والعصرية.

ولهذا البحث أهمية كبيرة ويأتي من خلال استعراضه تطوّر علم الدلالة لدى أبرز الأمم التي أرست دعائمه قديماً. ففي حضارة الهنود، ظهر الاهتمام بالدلالة عبر اللغة السنسكريتية وكتبهم المقدسة، خصوصًا “الفيدا”، فقد درسوا الاصناف المختلفة للأشياء والتي عبرها تم تشكيل دلالات الكلمات وتم من خلال هذه العملية الأساسية تقسيم جوهر الأشياء والاصناف الموجودة في الخارج مثال على ذلك أصبح هناك مدلول عام ومدلول شامل مثل كلمة (رجل) وغيرها من الاصناف مما أعطى هذا العلم طابعًا دينيًا وفلسفيًا. أما في اليونان، فقد تناول أفلاطون وأرسطو الدلالة من منطلقات فلسفية، فبحثوا في العلاقة بين اللفظ والمعنى، وبين الوحي والاصطلاح ومن القضايا التي أشغلت انتباه اليونانيين قضية نشأة اللغة فقد رأى أتباع أفلاطون بأن اللغة هي إلهام من الله وقد أختلف أتباع أرسطو ونظروا إلى اللغة واعتبروها من صنع البشر، وقد بذل اليونانيين جهود في دراسة لغتهم على الصعيد الصوتي والصرفي والنحوي والمعجمي وقد ترك أثراً عميقاً في حضاراتهم. وفي الحضارة العربية، نجد أثر الدلالة يتجلى بوضوح في القرآن الكريم وعلومه كافة، حيث ارتبطت الدلالة بالفقه وأصوله، وبرزت في مؤلفات كبار العلماء أمثال الفارابي، الغزالي، ابن خلدون، وابن جني وغيرهم الكثيرين.

ومن هنا، فإن دراسة علم الدلالة عبر هذه الحضارات المختلفة لا تضيء فقط على التطور اللغوي فحسب، بل تفتح أبواب الفهم العميق للعقل الإنساني وتزيد من تفاعله مع اللغة والمعنى ليسطيع الإنسان أن يعبر عن مشاعره بكل شفافية. لذا، سيُركّز هذا البحث على نشأة علم الدلالة، وأهم مفاهيمه وتطبيقاته كما فهمتها كل من الحضارات الثلاث: الهندية، اليونانية، والعربية، مع الوقوف على أبرز العلماء ومساهماتهم في هذا المجال.

أهمية البحث:

تنبع أهمية هذا البحث من اعتبارات متعددة، تتعلّق بأهمية الموضوع ذاته، وأثره على الدراسات اللغوية والفكرية، وأيضًا بأهمية المقارنة بين المدارس الدلالية في الحضارات المختلفة. ويمكن تلخيص أهمية البحث فيما يلي:

1. تعزيز الفهم العلمي للغة: يُسهم البحث في توضيح العلاقة والرابط العميق بين اللغة والمعنى، ويساعد الطلاب والباحثين على فهم كيفية تشكل المفاهيم اللغوية، وكيف تطورت الدلالات بحسب السياقات الثقافية، والفكرية، والاجتماعية، والدينية.

2. تأصيل المفاهيم الدلالية في التراث العربي: يسلط البحث الضوء على الجهود العظيمة التي قام بها علماء العرب في كافة مجالات علم الدلالة، وربط هذا العلم بعلوم أخرى كالفقه، والمنطق، والفلسفة، مما يدل على التكامل المعرفي والثقافي في التراث العربي.

3. ربط الماضي بالحاضر: يسهم هذا البحث في بناء جسر معرفي بين النظريات الدلالية القديمة والنظريات اللسانية الحديثة، مما يُتيح لنا فهم أعمق لأصل المفاهيم اللسانية المعاصرة.

4. أهمية تربوية وأكاديمية: يُعدّ البحث مرجعًا مبسطًا وشاملًا للطلبة في مادة علم الدلالة، إذ يعرض بأسلوب واضح ومترابط نشأة المفاهيم وتطورها عبر كل حقبة زمنية، ويحفز على مزيد من البحث والتأمل في اللغة ومعانيها وأسلوبها.

بناءً على ما سبق، فإن هذا البحث لا يقتصر على عرض معلومات تاريخية، بل يفتح آفاقًا فكرية وفلسفية في ميدان المعنى واللغة، وهو ما يضفي عليه بعدًا عميقًا من الناحية العلمية والثقافية.

مشكلة البحث:

يُعدّ علم الدلالة من أقدم وأعمق الدراسات اللغوية، إذ يتصل اتصالاً وثيقًا بجوهر اللغة وبنيتها المعنوية، ما يجعله محورًا حيويًا لفهم آليات التعبير الإنساني. وقد تباينت الرؤى حول طبيعة العلاقة بين اللفظ والمعنى عبر الحضارات المختلفة، مما ولّد جدلًا علميًا ومعرفيًا مستمرًا منذ العصور القديمة. وفي ضوء هذا التعدد التاريخي والمنهجي، تتجلى المشكلة الرئيسة للبحث في التساؤل الآتي: كيف تطوّر علم الدلالة عبر الحضارات المختلفة (الهندية، اليونانية، والعربية)، وما أوجه التلاقي والاختلاف في مطلقاتهم المعرفية وتعريفاتهم للعلاقة بين اللفظ والمعنى؟ إن الوقوف على هذه الإشكالية يمكّن من الإحاطة بأصول الفكر الدلالي، ويساعد في رسم معالم تطوره التاريخي والمنهجي وصولًا إلى الرؤية اللسانية الحديثة.

أهداف البحث:

تنبع أهمية هذا البحث إلى سعيه لعطاء جذور فكرية لعلم الدلالة في الحضارات القديمة، مما يسهم في فهم تطور المفاهيم اللغوية عبر الزمن. كما يسلط الضوء على الأبعاد الفلسفية والدينية والعلمية التي أثرت في تشكيل النظرية الدلالية وإلى جانب ذلك، فإن المقارنة بين هذه الرؤى تفتح آفاقًا جديدة لفهم العلاقة بين اللغة والمعنى، مما يعزز الوعي اللغوي لدى الباحثين ويدعم الدراسات اللسانية الحديثة بمضامين تراثية عميقة.

منهجية البحث:

اعتمد هذا البحث على المنهج الوصفي التحليلي، الذي يقوم على جمع المعلومات من المصادر المختلفة، ثم تحليلها ومقارنتها واستخلاص النتائج.

حدود البحث:

تتمحور حدود البحث في الإطار الزمني والفكري الذي يتناول فيه موضوع علم الدلالة في ثلاث حضارات قديمة دون التوسّع إلى النظريات اللسانية الحديثة. كما يقتصر البحث على دراسة المفاهيم الدلالية كما وردت في النصوص الفلسفية واللغوية الكبرى لتلك الحضارات.

أسباب اختيار الموضوع:

لقد دفعتني مجموعة من الدوافع العلمية والمعرفية إلى اختيار هذا الموضوع وسوف أذكر بعض منها، أولاً: وأهمها شغفي الشخصي بعلم الدلالة لطالما استهواني البحث في العلاقة بين اللغة والمعنى، وكيف تتشكل المفاهيم في ذهن الإنسان عبر الألفاظ والتراكيب.

ثانياً: رغبتي في فهم تطوّر الفكر الدلالي عبر الحضارات: كنت مهتمة بفهم كيف تعاملت الحضارات القديمة مع المعنى، وكيف فسّرت العلاقة بين اللفظ والمدلول، ووجدت أن مقارنة التصورات الدلالية لدى الهنود واليونانيين والعرب تتيح لي فهمًا أوسع وأعمق لتطور الفكر اللغوي الإنساني.

ثالثاً: ندرة الدراسات التي تجمع بين هذه الحضارات الثلاث: فقد لاحظت أن معظم الدراسات تركز على علم الدلالة في حضارة واحدة، أو على المفاهيم الحديثة فقط، فوجدت في هذا الموضوع فرصة لإبراز الجوانب المشتركة والمختلفة في الفكر الدلالي بين هذه الحضارات، وتقديم إضافة علمية متواضعة في هذا المجال.

الدراسات السابقة:

هناك عدد من الدراسات التي درست أهمية الوعي الدلالي في التراث اللغوي نذكر منها:

1- (يوسف، 2019) الفكر اللغوي عند الهنود واليونان والعرب: دراسة مقارنة في المفاهيم الدلالية.

تناولت هذه الدراسة نشأة الفكر الدلالي في الحضارات الثلاث القديمة (الهندية، اليونانية، العربية)، وتم من خلال هذه الدراسة تحليل أراء الفلاسفة والنحويين عن العلاقة التي تتمحور بين اللفظ والمعنى. فيبدأ الباحث بعرض مدارس “ميمانسا” و”نيايا” في الهند، ثم انتقل إلى أفلاطون وأرسطو في اليونان، وأخيرًا إلى سيبويه وابن جني في التراث العربي. وقد سلط الضوء على الجدل بين الثبات والتغير في المعنى بين تلك الحضارات، وهل هو ناشئ من الطبيعة أم من صنع البشر، وقد استخدم الأسلوب المنهجي في تحليل النصوص التراثية. ومن أهم نتائج بحثه هي الفكر الدلالي الذي قد نشأ عند الحضارات الثلاثة وذلك للحاجة الفلسفية الملحة لتفسير اللغة. وفي هذا البحث سيكون فيه الإضافة العلمية أولاً: التوسيع في مفهوم الوعي الدلالي أي كيف تبلور الإدراك الواعي بالمعنى وما هي وظيفته داخل كل حضارة. وأيضاً إعادة قراءة التراث من المنظر الحديث لأن ذلك يعيد بناء التصورات الدلالية القديمة في ضوء النظريات اللسانية الحديثة مما سيضيف لبحثي قيمة أكاديمية معاصرة.

2- (الزيات، 2021) اللغة والمعنى بين الشرق والغرب: قراءة في جدل اللفظ والمعنى من الهندوسية إلى الفلسفة الإسلامية.

تتناول هذه الدراسة الخلفيات الفكرية والفلسفية التي أثّرت في تصور المعنى عبر ثلاث بيئات مختلفة أهمها: الفكر الديني الهندوسي، الفلسفة اليونانية، والفكر الإسلامي في العصور الأولى. وقد حلل الباحث النصوص الهندوسية (مثل الفيدا والأوبانيشاد)، ثم أتبع آراء أفلاطون وأرسطو، وبعدها أنتقل إلى الجاحظ والفارابي والغزالي وقد ركز الباحث في دراسة على العلاقة الجدلية بين اللفظ والمعنى، وكيف يختلف في التصور الميتافيزيقي بين هذه البيئات الفكرية وقد أتبع في دراسته التحليل الفلسفي اللغوي وقد ساعدني هذا البحث في الإضافة العلمية لبحثي على إدخال مفهوم الوعي الدلالي كإطار جديد والذي بعد محوراً جوهرياً لنقاش المفاهيم وإلى إدراك الإنسان لمعنى اللغة على حسب سياقه الثقافي وأيضاً توسيع الأفق التحليلي ليشمل الأصول وليس فقط الأراء.

تعريف علم الدلالة:

لغةً:

في) اللغة (هي مادة تدل على (دلل) وهي أن تدل على الشيء المراد إيضاحه بإماره تتعلمها ثم اشتقت من هذا الأصل كلمة (الدلالة) والدليل ما هو يستدل به وقد دَله على الطريق يدله دِلالة ودَلالة والدلالة هنا في معناها اللغوي هو الاشارة إلى الشيء وإبانته.

اصطلاحاً:

إنها كون الشيء بحالة يلزم العلم به العلمَ بشيء آخر والأول الدال والثاني المدلول ويمكن أن نقول بصريح العبارة بأن علاقة الدال والمدلول مرتبطة ببعضها البعض وقد أعطانا المفهوم اللغوي الحديث تصريحاً موجزاً وهو: العلاقة بين الدال اللفظ والمدلول المعني وهي أن نقول: إن الضرب اتصال الضارب بالمضروب يمكن أن نقيس على ذلك السياق.

نشأة علم الدلالة:

لقد نالت اللغة اهتماماً واسعاً وكبيراً بين المفكرين والعلماء منذ الأمد البعيد لأن اجتمع بها كافة محاور الحياة منها الاقتصادية والثقافية والاجتماعية والفكرية والدينة والفلسفية وقد كان منهم الهنود فقد كانوا يكتبون كتبهم الدينة ويعملون بها أبنائهم فكان لديهم كتاب ديني يسمى بـ (الفيدا) يعتبر بالنسبة لهم المنبع الأساسي في ثقافتهم ودراساتهم اللغوية وغيرها من العلوم وقد كان رمزاً لخودهم عبر التاريخ وبعد حقبة من الزمن أخذت اللسانيات المنظور العام ونظر إلى اللغة كمادة علمية للدراسة والبحث فيها وبعد هذا الاكتشاف العظيم حدث جدل طويل عبر الزمن بين الباحثين حول نشأة اللغة فقد كانوا يقولون بأنها اللغة تمتلك علاقة بين اللفظ والمعنى شبيهة اللزومية بين النار والدخان، ومعظم المباحث الدلالية أعطت اهتماماً كبيراً وواسعاً بعلاقة اللفظ بالمعنى وربطت معه فهم طبيعة المفردات والجمل وسياق الكلام وفهم طبيعة المعنى وكل ذلك كان يعود للهنود فقد درسوا مختلف الأصناف كافه التي قد شكلت عالم الموجودات فقسموا دلالات الكلمة على أربعة أقسام وهي: مدلول عام ، الكيفية، الحدث، الذات قسم يدل على مدلول عام أو شامل. (لفظ) قسم يدل على الكيفية (كلمة) قسم يدل على حدث (الفعل). قسم يدل على ذات (الاسم). (بيطار و طحان، 1997)

منذ أن حصل للإنسان على الوعي اللغوي كان ذلك بكافه الحضارات البشرية فكان لليونان أثراً واضحاَ في مفاهيمهم بعلم الدلالة وللدلالة على ذلك كان حوار يدور بين أفلاطون وأستاذه سقراط وكان الحوار حـول موضـوع العلاقة بين اللفظ ومعناه، فعرف أفلاطون بميله إلى القول بالعلاقة الطبيعية بـين الدال ومدلوله، أما أرسطو فكان يرجح باصطلاحية العلاقة، بمعنى أن الكلام الخارجي والداخلي في النفس واحد، ومتطابقاً في المعنى مع التصور الذي يحمله العقل عنه، فتطورت هذه الأفكار والأبحاث حتى بدأ بعض المفكرين في تبني الأفكار الخاصة بهم وبدأوا بأنشاء مدارس تدعم مسارهم في دراسات اللغة كمدرسة الرواقيين ومدرسة الاسكندرية التي كان تعد أضخم مدرسة في كافة المجلات التعليمية وهي تعد المركز الحضاري الهلنستي في القرن الأول الميلادي. ومع المدرسة السكولائية في العصر الوسيط أشتد بها الصراع حول علاقة الكلمات ومدلولاتها فأنقسم العديد من المفكرين من هذه المدرسة حول علاقة الكلمة بالألفاظ وحول بذاتية العلاقة وتم الاهتمام بالمباحث الدلالية يزداد عبر الزمن وبقي هكذا الوضع على حالة ولم يفسر اللغويين المشكلات اللغوية والاختلافات ومع بدأ القرن التاسع عشر الميلادي، انتشرت الدراسات اللغوية فظهـرت النظريات اللسـانية وبرزت الفونولوجيا التي تدرس وظـائف الأصـوات ومن خلالها ظهر علم الفونتيك الذي يهتم بدراسة الأصوات المجـردة، وظهرت الأيدولوجيا التي اهتمت بدراسة الاشتقاقات في اللغة، ثم علم الأبنية والتراكيـب. وفي الشرق ظهر العرب المسلمون ففعلوا بحوث وخصصوا للبحوث اللغوية حيزاً كبيراً في إنتاجهم الذي يضم إلى جانب العلوم النظرية كالمنطق والفلسفة وغيرها من العلوم، وبذلك تأثرت العلوم اللغوية بعلوم الدين وخضعت لتوجيهاتها اللغوية في الدلالة والمعنى، فبنى اللغويون أحكامهم على أصول دراسة القرآن والحديث، وحكموا في أمور اللغة بالسماع والقياس والإجماع واستدعوا إلـى اسـتنباط الأحكام الفقهية فأهتموا بدلالة الألفاظ والتراكيب وحاول فهم معاني وتفسيرات الحديث والقرآن. وأن كل هذه الجهود في الدراسة اللغوية التي كانت عبر الأزمنة السابقة منها الهنود واليونانيين والعرب وغيرهم من الحضارات القديمة فتحت فرصة للعصر الحديث في البحث الألسني الدلالي فقد ساعد علماء اللغة إلى تشكيل نمط معرفي علمي يستند إلى مناهج وأصول ومعايير وقد أقترح العالم الفرنسي ميشال بريال باستخدام مصطلح يستخدم في علم البحث عن علم الدلالة هو السيمانتيك وهي دلالة لاستخدام علم المعاني. (عمر، 1986)

الفروقات بين علم الدلالة واللسانيات:

باعتبار أن نشأة علم الدلالة لم يكن مستقل عن العلوم الأخرى، بل كان مرتبط بها ارتباطا وثيقاً وخاصة اللسانيات لأنها كانت تهتم بدراسة اللسان البشري ولا تهتم بدلالة الكلمة مما ادعت الحاجة إلى بعض العلماء اللغويين عن جواهر الكلمات في المعنى ودلالاتها لكي يحددوا موضوعاتها ومنهاجها وأدواتها وقواعدها فنشأت واللسانيات العصبية وغيرها العديد. ويعرف علم اللسانيات بأنه يهتم بوصف الجوانب الصورية للغة ويتجنب معاني الكلمات الجوهرية فركز على بحث شكل الكلمة، إلى أن برز علم الدلالة ليسـد هـذه الفجوة فـي الدراسات اللغوية من جهة ويعمق ويكثر البحث في الجانب الدلالي للغـة، ويجتاز تلك الحواجز التي وقفت عائقاً مع اللسانيين ولأن علم الدلالة هو ميدان يتجاوز حدود اللسانيات التي يتعـين عليهـا وصف الجوانب الصورية للغة قبل كل شيء، ولعلم الدلالة وجود مستقل بذاته، وإن بقيت تربطه بعلـوم اللغـة الأخرى وخاصة الألسنية ولكن ما يميز البحث أنه هو عمق الدراسة في معنى الكلمات والتراكيب اللغة والكلام. (الداية، 2003)

مفاهيم علم الدلالة عند العرب:

اهتم علماء العرب قديماً بالدلالة لأن لغتهم تمتاز بالثراء الواسع فكل لفظ في اللغة العربية له معاني كثيرة وعديدة ويستعمل في التراكيب المختلفة بمعاني تتفاوت بتفاوت العبارات من الكلمات التي تؤدي إلى عدة معان فكانت تستخدمها القبائل المختلفة قديماً ومع ظهور الإسلام بين العرب وتطور اللغة العربية اتى المصلح العلمي جنباً إلى جنب مع المصطلح الفقهي الإسلامي الذي يتخذ فهم كتاب الله واستنباط الأحكام منه ونجد مختلف علوم التراث العربي تشترك فـي أدوات البحث ومصطلحاته العلمية المختلفة وقد استخدم اللغويـون المصطلحات الفقهية والشرعية منها: مصـطلح القيـاس والسماع والإجماع واستصحاب الحال والاستحسان وغيرها من المصطلحات ولم تكن هذه المصطلحات خاصة بالعلوم فسحب بل كانت تهدف إلى فهم القرآن وإلى إيضاح معانيه واسـتنباط دلالاته، واقتباس سننه في الإنشاء والتعبير. ولدى علماء العرب تعريفات عن الدلالة ومنهم: أبي نصر الفارابي (ت ٣٣٩هــ)، والإمام أبي حامد الغزالي (ت ٥٠٥هـ)، وعبـد الـرحمن بـن خلـدون (ت ٨٠٨هـ)، والشريف الجرجاني (ت٨١٦هـ)، وتم اختيار هذه الفئة من العلماء لأن في مؤلفاتهم كان الاهتمام واضحاً بالتنظير الدلالي وسنتقدم لمحة عنهم وعن مؤلفاتهم. (نشار، 1947)

مفهوم الدلالة عند الفارابي:

وسنبدأ أولًا بالعالم العربي الفارابي والذي كان اسمه مقترناً جنباً إلى جنب في علم المنطق وعلم الفلسفة فكان الفارابي يرى بضرورة الأخذ بالعلوم العربية وقوانينها وسننها في التعبير والخطـاب، لأنها أدوات أساسية في البحث المنطقي والفلسـفي وقد كان هذا واضحاً من خلال مؤلفاته ومن المسائل الدلالية التي بحث فيها: أقسام الألفاظ في دلالاتها وقد صنف الألفاظ إلى تصنيفات متنوعة ووضع لها علماَ خاصاً بها وسماها بـ) علم الألفاظ (وقد جزئها إلى سبعة أقسام وهي: علم الألفاظ المفردة والمركبة، وغيرها من العلوم. فطبعا دراسة الفارابي للألفاظ لا يمكن تخيلها بالمنعزل عن الدلالة لأنه لا وجـود للألفاظ فارغة الدلالة في علمي المنطق والفلسفة وإنما الألفاظ ودلالاتها يمتلكان وجهـان رئيسيان يمشيان جنباً إلى جنب، فإن الدراسة الدلالية عند الفارابي هي مستوى الصيغة الإفرادية وهذا ما يطلق عليه في العصر الحديث بالدراسة المعجمية، والتي بدورها يتم دراسة الألفاظ ويتم فصلها عن سياقها اللغوي، فيمكن أن تدرس دلالاتهـا وأقسـامها ضـمن أنظمتها الدلالية وتنتظم فيها وفق قوانين حددها علماء الدلالة وذلك لدمجها للاستعمال اللغوي والتي تتكون من معنى مفرد تدل على معان مفردة ومنها مركبة تدل على معان مفـردة ولهذه الألفـاظ الدلالية لها أدوات عديدة منها: اسم وكلمة الفعل، أداة ،حرف وهذه الفئات مشتركة بأنها تدل على المعنى المفرد وبالنسبة إلى الألفاظ فهيه تنقسم إلى قسمين هما ، ألفاظ مفردة ذات دلالة مفردة، وألفاظ مركبة ذات الدلالة المفردة.فتعتبر النظرية الدلالية عند الفارابي هي علاقة الألفاظ بالمعاني بقوانين المنطق وهي تعتبر دراسة الألفاظ ومدلولاتها. (الفارابي، 1999)

مفهوم الدلالة عند الغزالي:

استند الغزالي في مفهوم الدلالة إلى استنباط الأحكام من القرآن الكريم وقد وضحها في كتابه(المستصفى) من علم الأصول ووضع هذا الكتاب لفهم النصوص الشرعية وقد أدى إلى وصوله لجوهر الدلالة وتفرعاتها فتجده قد وضع أصنافاً لمعان علمية فبنظرة مقتضبة إلى بعـض نصوصـه في كتابه المشار إليه آنفاً، تجده يذكر أصنافاً لمعان قد حـددها علمـاء الدلالـة المحدثون كالمعنى الإرشادي أو الإيمائي، والمعنى الإتساعي، والمعنى السياقي فكانت هذه المصطلحات العلمية قد سميت من قبل الغزالي سابقا بمصطلحات أصولية وهي تدل على ترتيب دلالة الإشارة ودلالة الخطاب والدلالات الرئيسة لها دلالات فرعية مثل دلالة الاقتضاء وهي لا يدل عليها لفظ ولا ينطق بها ولكن هي من ضروريات اللفظ. ويكون إدراك دلالة الاقتضاء إما بطبيعة حال المتكلم فهي بناء على ذلك طبيعية لا يكون المتكلم عندها إلا صادقاً وإما أن تكون عن طريق العقل فدلالتها تكون عقلية منطقية، ويعتبر بأن ما يأتي مع العملية التواصلية مـن الحركـات والإيماءات والإشارات من طرف المتكلم فتتغير الدلالة مـن المعنـى الرئيسـي، إلـى المعنى الإيمائي أو ما يسمى في علم الدلالة الحديث “بالقيم الحافة”، وهي مجموعة من القيم الثقافية والاجتماعية وغيرها التي تكون معها متصلة في عملية التواصل لكي نؤدي دلالة معينة لا نعتمد فحسب على الألفاظ أو الرموز وإنمـا يقتضـي ذلك معها عدة أنظمة النظام الإشاري، والنظام النبري والنظام الإيحائي، والنظام السياقي، ونظام المقام أو الحال مثال على ذلك : إن المتكلم قد يفهم بإشارته وحركته في أثناء كلامه ما لا يدل عليه في نفس اللفظ فيسمى إشارة وهي قد يتبع اللفظ ما لم يقصـد به وهنا ما يسمى بالإيماءات. وقد بحث الغزالي في قسم الألفاظ من حيث إفرادها وتركيبها وعددها إلى ثلاثة أقسام منها: -1 المفرد: وهو الذي لا يوجد به الدلالـة على شيء فهو جزؤه كقولك عيسى. -2 المركب: فهو يدل كل جزء فيه على معنى، وكقولك: زيد يمشي-3. مركب ناقص: وهو مركب من اسـم وأداة، وقد أدعى ذلك إلى تقسيمات الألفاظ منها الكلي والجزئي وعموم المعنى وخصوصه، وقد حدد أربعة أصناف منها ونسبها إلى المعاني منها المشتركة، المتواطئة، المترادفة والمتزايلة. ويشرح الغزالي على نحو تفصيلي عن العلاقة بين الصور المحفوظة في الذاكرة للمدلولات المادية والمجردة، والألفـاظ والكتابة والتي هي تعتبر من الأدوات الدالة فالكتابة دالة على اللفظ، واللفظ دال على المعنى نفسه، فقد قسم الغزالي المهارات التوظيفية كالتالي: أولا- الكتابة والتي تمثيل للملفوظ فهي إشارة. ثانياً – اللفظ دال باعتبار ومدلول باعتبار آخر. ثالثاً- المعنى الذي في النفس الصور الذهنية مدلول فقط وليست بدال. رابعاً- الموجود في الأعيان الأمور الكتابة الألفاظ دال. سادساً – الصور الذهنية -الخارجية مدلول فقط وليست بدال. خامساً- الأمور الخارجية المدلول وقد أظهر الغزالي قدرة عميقة في فهم تلك السـنن التـي ينطوي عليها نظام اللغة، وذلك استجابة للمبحث الأصولي الذي يتجـاوز الفهـم السطحي “النحوي” للغة وإلى استقراء أدق معانيها، لا يتعـرض لهـا اللغـوي المختص بصناعة النحو. (الغزالي، 1993)

مفهوم الدلالة عند ابن خلدون:

استطاع لابن خلدون أبي زيد عبد الرّحمن بن محمد أن يحيا في زمانه (732هـ_ 808 هـ) أتيح له أن يرث البيئات الإسلاميّة المتقدّمة، ممّا مكّنه من الوقوف على جهود من سبق عصره، على اختلاف مدارسهم وأزمنتهم، فهيّأ له ذلك ثقافة وإلماما كبيرا بمعارف مختلفة، فجعلت منه المفكّر الأصيل من بين سائر مفكّرينا القدامى، وكان يُشار إليه، بأنّه صاحب نظريّة منجيّة في النّظر والتفكير والبحث والتفسير، وأنّه “حقّق إيجازاً بالنسبة للنظام المعرفي القديم، ثمّ وُصفت لنا بعض إنجازاته بأنّها غير مسبوقة في دراسة الدلالة لأنها بحثت في الجوهر العميق لمفهوم الدلالة وما هي طرق تأديتها بأفضل الوسائل فوضح المعاني المحفوظة في النفس والكتابة والألفاظ وقد لخصها بثلاثة مراحل وهي : الكتابة الدالة على اللفظ ، اللفظ الدال على المعاني والتي تكون في النفس والضمير وهي تعتبر الصورة الذهنية ، المعاني الدالة على الأمور الخارجية. ويهتم ابن خلدون للخط والكتابة بكافة أبعاده المهمة فـي العمليـة التواصـلية لأنه يأخذ بعين الاعتبار أداتين مهمتين من أدوات التعليم والتعلّم الشيء ويعتبر الخط من أداة الدلالة الهامة لأن الخط هو رسوم وأشـكال حرفية تدل على الكلمات المسموعة الدالة على ما في النفس. ولأن الخط دال علـى الألفـاظ والألفاظ دالة على المعاني. وتوضحاً على ذلك إن في الكتابة هو انتقالًا من صور الحروف الخطية إلى الكلمات اللفظية في الخيال ومن الكلمات اللفظية في الخيال إلى المعاني التي في النفس فهو ينتقل من دليـل إلى دليل بالكتابة فتتعود النفس ذلك فتحصل الحرية في التعبير والتصور. ولا ننسى أيضاً بأن الفضل الكبير لابن خلدون عندما ساهم في قواعد علم التربية والإحاطة بالألفاظ ودلالاتها على المعاني الذهنية وقد وضعها في طريقتين: الأولى – طريقة القراءة والتعلم من الكتاب. والثانية- طريق التعلم بالمشافهة والتلقين. وهي شرحها بمعرفة الألفاظ ودلالتهـا علـى المعاني الذهنية تردها من مشافهة الرسوم بالكتاب ومشافهة اللسـان. وعند ابن خلدون تكون الدلالة في أقسـام المعنـى وهي الأخذ في الألفاظ ودلالتها. (ابن خلدون، 1981)

مفهوم الدلالة عند الشافعي:

الإمام الشافعي هو أحد الأئمة الأربعة عند أهل السنة وهو أبوعبد الله محمد بن ادريس بن العباس بن عثمان بن شافع الهاشمي القرشي المطلبي وكان ابوه قد هاجر من مكة إلى غزة بفلسطين بحثاً عن الرزق لكنه مات فنشأ محمد يتيما فقيراً وعلى الرغم من الظروف القاسية التي مر بها فيعتبر مؤسس علم أصول الفقه، ومؤلف كتاب “الرسالة” وهو أول كتاب في علم أصول الفقه، ويعتبر الأول بين العلماء الذي مزج في فقهه بين طريقة أهل العراق والحجاز وشغل في علم التفسير وعلم الحديث، كما عمل قاضيا وعرف عنه بالعدل والذكاء والفطنة. ومن أهم مميزات الشافعي بأنه يمتلك الحس اللغوي، في السنن والقول والدلالة، وكان فصيح اللسان ويتميز بأسلوب فيه رصف الألفاظ وحسن وقوعها في سياق الجمل، يقول الشافعي في إشارته إلى معنى اللفظ السياقي عند العرب في الكلام: “وتبتدئ الشيء من كلامها يبين أول لفظها فيه عن آخره، وتبتدئ الشيء يبين آخر لفظها منه عن أوله وتأكيداً لذلك يضع الإمام عنواناً لباب سماه: الصنف الذي يبين سياقه المعنى. ويمكن أن نلمس نظرية الشافعي المعرفية بعرض السبل التي يدركها الإنسان معنى السياق وقد حصرها الإمام في النصوص الدينية وفي اللغة العربية وسنن العرب في الكلام فضلًا عن الحس السليم في تمييز الخاص والعام والظاهر والخفي الدلالة وبالنسبة للنظرية المعرفية هي كافة الطرق المنطقية التي توصلنا إلى إدراك ماهية الأمور المعقولة والمحسوسة وهي نظرية أسقطت من تناولها البحث في ذات الله تعالى. بينما يذهب بعض المؤرخين إلى إلحاق فكر الشافعي في استنباط الأحكام وتحديد القواعد الأصولية، من فكر اليونانيين وأخذ منهم العلوم والفلسفة والمنطق لذلك كانت قد نقلت وترجمت إلى اللغة العربية من قبـل الشافعي، لأنه كان يتميز بمعرفة للغة اليونانية، وبالنسبة إلى القرآن الكريم كان للشافعي رؤية خاصة دلاليه للعلامة الغير لغوية إذ في معرض تفسـيره للفظ “العلامات” الوارد في القرآن، استند في تحديد مدلولها على العقـل، يقول الله تعالى: وعلامات وبالنجم هم يهتدون، وقد وأثار الشافعي مسألة الترادف في اللغة وقد أثبته في معرض بحثه عن دلالة لفظ الوارد ذكره في قوله تعالى مخاطبا نبيه، فقد وضع علم الترادف لأنه يتضمن مباحث الدلالة في العصر الحديث ولأنه ارتبـاط بتأديـة المعنى بأشكال لغوية مختلفة وهي مسألة جدال كبيرة بين علمـاء اللغة المحدثين أثبتها البعض وأنكرها البعض الآخر ولذلك نلاحظ بأن الشافعي قد ترك بصمة كبيرة في العلوم الإسلامية. (الشافعي، 1979)

مفهوم الدلالة عند الجاحظ:

يُعدّ الجاحظ (عمرو بن بحر الكناني البصري، ت. 255هـ) من أبرز أعلام الفكر واللغة في العصر العباسي، وقد ترك بصمة عميقة في ميدان الدلالة واللسانيات العربية المبكرة. وُلد بالبصرة عام 159هـ وتلقى علومه على يد كبار علماء عصره كالأصمعي والأخفش والنظام، مما أتاح له تكوين رؤية موسوعية جمعت بين المعارف العربية، والترجمات الفارسية، واليونانية، والهندية. ويتميّز مشروعه الفكري بكونه تقاطعًا بين البلاغة، وعلم الكلام، والدلالة، خاصة من خلال مؤلفاته الكبرى مثل البيان والتبيين والحيوان. وفي مجال علم الدلالة، كان للجاحظ رؤية سبّاقة في تصنيف أشكال الدلالة، حيث قسّمها إلى خمسة أنواع تشمل اللفظية وغير اللفظية، وهو ما يُعدّ إدراكًا مبكرًا لتعدد أنظمة الإشارة والتواصل. وقد أولى اهتمامًا بالغًا بطبيعة العلاقة بين اللفظ والمعنى، مؤكدًا أن المعاني موجودة في النفس بصورة غير محدودة، وأن الألفاظ محدودة العدد وتُستعمل كأدوات لتصوير تلك المعاني. وفي هذا السياق، فرّق بين “المعنى العقلي” بوصفه تصورًا ذهنيًا سابقًا، و”اللفظ” بوصفه وسيلة نقلية تواصلية، وهو بذلك يُرسّخ لفكرة أن الدلالة تنشأ من علاقة تكاملية بين الفكر واللغة. كما تناول الجاحظ الدلالة الصوتية من زاويتين: النطقية والسمعية؛ فدرس صفات الأصوات ومخارج الحروف ومدى انسجامها في التركيب اللغوي، وبيّن أثر التنافر الصوتي في تعذر النطق، متقدمًا بذلك في فهم المبادئ الفونولوجية قبل أن تتبلور في اللسانيات الحديثة. وقد أشار إلى أن بعض الحروف لا تجاور غيرها لاعتبارات تتعلق بالجهارة أو المخرج، مثل امتناع اجتماع “الجيم” و”الظاء” أو “القاف” في موضع واحد، وهو ما يشير إلى وعيه العميق بالعلاقة بين البنية الصوتية والدلالة التركيبية. إن نظرية الجاحظ في المعنى تقوم على اعتبار أن المعاني متجذرة في النفس البشرية، وأن اللفظ ليس إلا وسيلة ناقلة لها، مما يؤسس لرؤية فلسفية دلالية ترى أن التفكير سابق على التعبير، وأن اللغة تجتهد لمحاكاة العالم الداخلي للفكر الإنساني. وبهذا، يكون الجاحظ من أوائل من تناولوا المعنى بوصفه نتاجًا معرفيًا قبل أن يكون بنية لغوية. (الجاحظ، 1968)

مفهوم الدلالة عند ابن سيناء:

يُعدّ أبو علي الحسين بن عبد الله بن سينا (980–1037م) من أعلام الفكر الإسلامي الوسيط، حيث جمع بين الفلسفة والطب والمنطق والعلوم الطبيعية، وقد امتدت تأثيراته إلى أوروبا حتى القرن السابع عشر، وذاع صيته طبيبًا وفيلسوفًا، كما عُرف بإسهاماته الدقيقة في القضايا اللغوية والدلالية. وقد أولى ابن سينا عناية كبيرة باللغة العربية وعلومها، مستفيدًا من خلفيته الفلسفية والمنطقية لتأسيس منهج خاص به في تحليل المعنى والدلالة. تميّز منهج ابن سينا في علم الدلالة بطابعه النفسي والتحليلي، إذ لم يقتصر على العلاقة السطحية بين اللفظ والمعنى، بل سعى إلى ربطها بالوجود الذهني والتصور العقلي الذي يصاحب عملية التلقي. وقد اعتمد في ذلك على مفاهيم مستمدة من علم النفس والتشريح، فركّز على الارتسامات الذهنية للعلامات اللغوية في الخيال والوعي، معتبرًا أن العملية الدلالية تبدأ من الإدراك الحسي وتنتهي بالتجريد العقلي، حيث تُختزن المعاني في النفس ثم تُعبّر عنها اللغة من خلال أدواتها مثل اللفظ والكتابة. وصنّف ابن سينا البحث الدلالي في ثلاثة محاور رئيسية: أقسام اللفظ: ميز فيها بين اللفظ المفرد واللفظ المركب على أساس دلالته، فالمفرد هو ما يدل على معنى واحد لا يتجزأ، وإن كان مركبًا من لفظين كـ”عبد شمس”. أما المركب فهو ما يدل على أكثر من معنى، ولا تنفصل دلالته عن تركيبه. أقسام الدلالة: تبنّى التصنيف الثلاثي الكلاسيكي في الدلالة: المطابقة (حين يدل اللفظ على المعنى تمامًا)، والتضمّن (عندما يدل على جزء من المعنى)، والالتزام (عندما يدل على ما يرتبط بالمعنى في الذهن). غير أن ابن سينا شدد على الطابع العقلي في الانتقال الدلالي، إذ يرى أن هذا الانتقال يتم وفق علاقات وضعية قائمة في الذهن وليس بشكل اعتباطي. العملية الدلالية: تناول فيها فعل الدلالة كآلية عقلية معقدة، تقوم على قدرة الإنسان على تحويل مفاهيم مستخلصة من الواقع إلى رموز لغوية. وتتكوّن هذه العملية من أربع مكوّنات أساسية: الأفكار، والأحداث، والأوضاع، والمفاهيم، وهي التي تشكل البنية الداخلية للمعنى قبل تحققه في اللفظ. وقد هدف ابن سينا من خلال هذه الرؤية إلى وضع قوانين للمعنى تقي من الالتباس اللغوي، وتمنع الوقوع في الخطأ أو اللحن، عبر ضبط النظام الدلالي بما يتماشى مع المنطق العقلي. وبذلك، أسهم في تأسيس رؤية دلالية فلسفية نفسية، سبقت بكثير بعض المفاهيم التي تبنّتها اللسانيات المعاصرة. (ابن سينا، 1984)

مفهوم الدلالة عند ابن جني:

يُعد أبو الفتح عثمان بن جني (322هـ – 392هـ)، أحد أعلام النحو واللسانيات العربية، وقد نشأ في الموصل وتعلّم على يد أحمد بن محمد الموصلي الأخفش. ورغم اضطراب الأحوال السياسية في العصر العباسي، فإن ابن جني انصرف إلى الدراسة والتأليف، وتميّز بمنهج لغوي عميق جمع بين النحو والصرف والصوتيات والدلالة، وكانت أبرز أفكاره منصوصة في مؤلفه الشهير الخصائص. وقد تميّزت نظرية ابن جني في علم الدلالة بربطها الوثيق بين بنية الكلمة والمعنى المستفاد منها، إذ سعى إلى إثبات أن تغير البنية الصرفية يؤدي إلى تغير دلالي حقيقي، وأن الحروف المتقاربة في المخرج تؤدي إلى معاني متقاربة، وهو ما يعد تأسيسًا مبكرًا لما يُعرف في اللسانيات الحديثة بالتقارب الفونولوجي والدلالي. وقد صنف الدلالة إلى مستويات متدرجة أبرزها. الدلالة اللفظية: وهي المعجمية الأصلية التي يحملها اللفظ المجرد، وهي مرتبطة بالحدث أو المفهوم الأساسي للكلمة مثال: “قَعَد” تدل على حدث الجلوس، وتشتق منها صيغ مثل: مقعد، قاعدة، متقاعد… إلخ. الدلالة الصناعية (الصرفية): وهي التي تنشأ من البنية المورفولوجية للكلمة، حيث تدل الصيغة على الزمان أو الهيئة، مثل ارتباط الفعل بزمن ماضٍ أو مضارع أو مستقبل. الدلالة المعنوية: وهي الأوسع، وتتعلق بالمؤشرات الخارجية أو السياقية التي تحدد خصائص الفاعل أو المفعول أو الحدث، ولا تستمد من بنية الكلمة مباشرة، بل من السياق التواصلي. كما تناول ابن جني ظاهرة الترادف اللغوي من منظور دقيق، إذ رأى أن الألفاظ المتعددة لمعنى واحد غالبًا ما تُظهر فروقًا دقيقة في الدلالة تعود إلى اختلاف البنية أو التركيب الصوتي، ما يشير إلى رفضه التام لفكرة التطابق التام بين المترادفات، ودعوته إلى تأمل الفروق الدلالية الكامنة وراء تغير المبنى. ومن الإضافات النوعية التي قدّمها ابن جني رؤيته بأن كثيرًا من ألفاظ العرب تُستعمل في أصلها المجازي، ومع التكرار تكتسب دلالتها الحقيقية في الذهن الجمعي، وهي نظرة تلامس ما يُعرف اليوم بـ”الدلالة التداولية” و”التطور الدلالي.” لقد أسّس ابن جني بذلك منهجًا دلاليًا وصوتيًا وصرفيًا متكاملًا، يجمع بين التحليل البنيوي والتفسير المعنوي، ويُعدّ بذلك رائدًا من رواد التفكير اللغوي في التراث العربي (ابن جني، 1952).

مفهوم الدلالة عند الشريف الجرجاني:

يُعد السيد الشريف علي بن محمد الجرجاني (ت. 816هـ) من أبرز علماء القرن الثامن الهجري، وقد ترك تراثًا علميًا متنوعًا تجاوز الخمسين مؤلفًا في مجالات الفقه والفلسفة، والفلك والمنطق واللغة. ومن أشهر مؤلفاته كتاب التعريفات، وهو معجم اصطلاحي شامل يُعد من أوائل المعاجم العربية التي سعت إلى ضبط المصطلحات العلمية والفنية وفق استخداماتها في العلوم المختلفة، مما جعله مرجعًا أساسيًا في الدراسات الدلالية والمعجمية حتى اليوم. ينطلق الجرجاني في تعريفه للدلالة من منطلق أصولي منطقي، فيقول: “الدلالة هي كون الشيء بحاله يلزم من العلم به العلم بشيء آخر”، وهو تعريف يُبرز العلاقة العقلية الضرورية بين الدال والمدلول، ويؤسس لفهم شمولي للدلالة لا يقتصر على اللغة، بل يشمل العلامات غير اللفظية أيضًا وقد قسّم الجرجاني أنواع الدلالة إلى مستويين رئيسيين: الدلالة اللفظية: حيث يكون اللفظ هو الوسيلة الناقلة للمعنى، الدلالة غير اللفظية: وتتمثل في الوسائط غير اللغوية كالرموز أو الإشارات ثم صنف الدلالة اللفظية إلى ثلاث مراتب عقلية تُعد من أهم ما قدمه في هذا المجال: دلالة العبارة: وهي ما يتبادر إلى الذهن مباشرة من صيغة النص، وتُعد أوضح صور الدلالة، دلالة الإشارة: وهي دلالة خفية تُستنبط من السياق أو من ترتيب الكلام دون التصريح المباشر، دلالة الاقتضاء: وهي ما يُفهم من النص ضمنًا، كأن يتطلب المعنى المقصود افتراض وجود معنى غير منطوق به صراحة. وقد أظهر الجرجاني وعيًا دقيقًا بطبيعة العلاقة بين طرفي العملية الدلالية، الدال والمدلول، فميّز بين المحتوى الذهني للعلامة ومرجعها الخارجي، مما يدل على نضج فلسفي في فهمه للبنية الدلالية. كما اعتبر أن عملية صرف الدال إلى مدلوله تعتمد على صيغ عقلية تؤسس للتأويل الصحيح وتُجنّب الوقوع في الالتباس أو الفهم السطحي للنصوص. تمكن أهمية نظرية الجرجاني في الدلالة في أنها تنطلق من مرجعية معرفية متكاملة تربط بين الأصول الفقهية، والمنطق، وعلم اللغة، مما جعلها نواةً مهمةً لفهم أعمق للدلالة في التراث العربي الإسلامي. وقد كان لهذا الطرح أثر واضح في إغناء المفاهيم اللاحقة في الدرس اللساني، خاصة فيما يتعلق بتنوع مستويات الدلالة وتداخلها، وهو ما سبقت إليه الثقافة العربية قبل تشكل المدارس اللسانية الحديثة. (الجرجاني، 1983)

مفهوم الدلالة عند الهنود

يُعد التفكير اللغوي المنظم من أقدم الأنشطة العقلية التي مارستها الحضارات القديمة، وقد سجل التاريخ أقدم ملامحه لدى الحضارتين الهندية واليونانية، قبل أن يتلقّف العرب مشعل البحث اللغوي ويطوّروه بمنهجية علمية رصينة. ويُقر الباحثون أن الحضارة الهندية قدّمت نموذجًا مبكرًا لفهم اللغة وتحليل بنيتها، مستندة إلى لغة “السنسكريتية”، وهي اللغة التي ارتبطت بالنصوص الدينية المقدسة، وبخاصة الفيدا، الذي يعود إلى ما بين القرنين الثاني عشر والعاشر قبل الميلاد. ومن أبرز أعلام الفكر اللغوي الهندي العالِم بانيني، الذي تُنسب إليه مؤلفات نحوية عُرفت باسم الكتب الثمانية[1]، والتي قيل إنها تُشكّل الهيكل النحوي للغة السنسكريتية. وقد عُدّت هذه الكتب أساسًا للبحث اللغوي الهندي، ودليلًا على عناية الهنود بالضبط اللغوي وتحليل البنية الصرفية والنحوية لأصواتهم منذ قرون طويلة. وقد امتد أثر هذا التراث لاحقًا إلى أوروبا، لا سيما منذ القرن الثامن عشر الميلادي، حين اكتشف اللغويون الغربيون العلاقة بين السنسكريتية واللغات الهندو-أوروبية، كما أشار إلى ذلك روبنز في كتابه موجز تاريخ علم اللغة في الغرب. وقد تميز الفكر اللغوي الهندي بوضوح منهجي على ثلاثة مستويات رئيسية: المستوى الصوتي: صنف الهنود الأصوات وفق مخارجها وصفاتها، وتوصّلوا مبكرًا إلى التمييز بين الأصوات المجهورة والمهموسة، عبر ملاحظتهم لدور الوترين الصوتيين في عمليتي الجهر والهمس، وهي ظاهرة أقرّها العلم الصوتي الحديث لاحقًا بدقة تجريبية. المستوى النحوي: صنف الهنود الكلمات إلى اسم، فعل، حرف، كما فرّقوا بين الأزمنة (ماضٍ، حاضر، مستقبل) وصنّفوا الأسماء وفق العدد إلى مفرد، مثنى، وجمع، في تصنيف يوازي ما وصل إليه النحويون العرب في وقت لاحق. المستوى المعجمي: اهتم الهنود بجمع الألفاظ وتصنيفها، ودرسوا العلاقات الدلالية بينها على نحو سابق لفكرة المعاجم المصطلحية، مع إدراكٍ واضحٍ لارتباط الدلالة بالبنية الصوتية والنحوية. إن الفكر اللغوي الهندي لم يكن معزولًا، بل مهّد لنهضة لغوية وفكرية عالمية، أثّرت في الاتجاهات النحوية والصوتية في الشرق والغرب، وكان له الأثر الملموس في إرساء قواعد الفهم المنظم للغة بوصفها نظامًا منطقيًا قائمًا على الملاحظة والتحليل. ( روبنز، 2000)

مفهوم علم الدلالة عند اليونانيين

تعد الحضارة اليونانية من أبرز المحطات التاريخية في تطور التفكير اللغوي المنظم، وقد كان لفلاسفتها، خصوصًا أفلاطون (427–347 ق.م) وأرسطو (384–322 ق.م)، دور محوري في تأسيس الرؤية اللغوية الفلسفية التي شكلت الأساس لعلم اللغة لاحقًا. فقد طرح أفلاطون في محاورة كراتيليوس سؤالًا جوهريًا حول أصل اللغة، ورأى أنها إلهام إلهي ووحي فطري، بينما اعتبرها أرسطو اصطلاحًا بشريًا قائمًا على التواضع الاجتماعي، ما أرسى انقسامًا معرفيًا مهمًا في النظر إلى نشأة اللغة. وقد تطورت هذه المناقشات لاحقًا في مدرسة الإسكندرية القديمة، التي كانت حاضنة للتراث الأدبي واللغوي اليوناني، حيث اهتم العلماء بتحقيق نصوص الشعراء وتفسير مفرداتهم، ما يدل على ازدهار الدرس اللغوي التحليلي، تميّزت الدراسات اللغوية اليونانية بتغطيتها لأربعة مستويات لغوية رئيسية: المستوى الصوتي: قام العلماء اليونانيون بتحليل أصوات لغتهم بمنهجية علمية دقيقة، واستكملوا نظام الكتابة السامي بإضافة رموز تمثل الحركات، لتصبح الكتابة اليونانية قادرة على تمثيل النظام الصوتي بدقة، كما درسوا المقاطع والنبرات الصوتية، وميّزوا بين الأصوات الصامتة والصائتة. المستوى النحوي: صنّف اليونانيون الكلمة إلى ثمانية أصناف لغوية هي: الاسم، الفعل، اسم الفاعل، اسم المفعول، الضمير، أداة التعريف، الحرف، الظرف، وأدوات الربط. كما قسموا الاسم حسب الجنس (مذكر، مؤنث، ومحايد)، وحسب العدد (مفرد، جمع)، أما الفعل فقُسم حسب الزمن (ماضٍ، حاضر، مستقبل)، المستوى الصرفي: ربطوا التغيرات الصرفية بتغير المعنى والوظيفة النحوية، فميزوا بين الوظائف الدلالية المترتبة على تصريف الأفعال والأسماء. المستوى المعجمي: عملوا على إنشاء معاجم لغوية رتبوا فيها المفردات وفق أشكالها أو موضوعاتها، مما ساعد على حفظ اللغة وضبط المصطلحات، وهو ما يُعدّ من البدايات الأولى للمعجمية الموضوعية في الغرب. لقد أسس اليونانيون، من خلال هذا المنهج المتكامل، ملامح أولية للدراسات اللغوية المقنّنة، مؤسسين لتقليد فلسفي وعلمي أثّر في الفكر اللغوي اللاتيني، ثم العربي، ثم الغربي الحديث. ( العشماوي، 1995)

الاستنتاج

ومن خلال هذه الدراسة نستطيع أن نستنتج بأن تتبّع الجذور الفكرية في الحضارات الهندية واليونانية والعربية نشأ مبكرًا وجاء كردّ فعل معرفي ووجودي لفهم العلاقة بين اللفظ والمعنى.

بيّنت الدراسة أن الوعي الدلالي في هذه الحضارات لم يكن مفهومًا جامدًا، بل كان يتطور وفق الحاجات الفكرية والوظيفية والشرعية، مما يدل على تكامله مع تطوّر المعرفة الإنسانية وبالنسبة للمفاهيم الحديثة في علم الدلالة (كالسياق، والإيماءة، والترادف، ودلالات المطابقة والتضمن والالتزام) كانت حاضرة بدرجات متفاوتة عند العلماء قديماً، ما يثبت أصالة الفكر الدلالي التراثي.

التوصيات

ومن أهم التوصيات التي توصلت لها بأن ضرورة إعادة قراءة التراث اللغوي والفلسفي من منظور علم الدلالة الحديث، وذلك باستخدام مناهج علم اللغة المعاصرة، كالسيمانتيك المعرفي والسيميائيات، لفهم أعمق لتطور الفكر الإنساني.

وأيضاً تشجيع الدراسات المقارنة بين الحضارات اللغوية الكبرى (الهندية، اليونانية، العربية) لإبراز التفاعل الحضاري والفكري بين الثقافات في بناء المفاهيم الدلالية، ولتحقيق رؤية إنسانية شاملة.

ومن الضرورة دعوة الباحثين إلى توسيع نطاق البحث ليشمل حضارات أخرى كالصينية والفارسية واللاتينية، لرصد تطور الوعي الدلالي العالمي، ومقارنته بما هو متوفر في الحضارات التي شملها هذا البحث.

الخاتمة:

يتبيّن من خلال هذه الدراسة أن الوعي الدلالي لم يكن وليد العصر الحديث، بل هو امتداد لسلسلة من الجهود الفكرية والمعرفية التي بدأت منذ أقدم العصور، وشكّل محورًا أساسيًا في البناء الحضاري والثقافي للإنسان. وقد أظهرت الحضارات الثلاث – الهندية، واليونانية، والعربية – قدرًا كبيرًا من العمق في فهم العلاقة بين اللفظ والمعنى، وإن اختلفت منطلقاتها الفلسفية والوظيفية. ففي حين ارتبط علم الدلالة في الفكر الهندي بالسياق الديني والميتافيزيقي، فإن الفكر اليوناني أسّس له من منطلقات عقلية ومنطقية، بينما أضفى عليه الفكر العربي الإسلامي طابعًا لغويًا شرعيًا متكاملاً، يتفاعل فيه اللفظ مع المقام والسياق والنصوص الشرعية.

كما أظهرت الدراسة أن المفاهيم الدلالية الكبرى، كدلالة المطابقة والتضمين والالتزام، والترادف، والسياق، والإشارة، كانت حاضرة بدرجات متفاوتة في التراث، وإن اختلفت المصطلحات والأدوات التحليلية المستخدمة. وقد اتضح أن كل حضارة ساهمت في بلورة جزء من النظرية الدلالية العامة، ما يدل على الطبيعة التراكمية والمعرفية لعلم الدلالة بوصفه علمًا إنسانيًا شموليًا.

ومن هذا المنطلق، فإن قراءة التراث الدلالي لا تُعد مجرد استحضار للماضي، بل تمثّل مدخلًا مهمًا لفهم اللسانيات الحديثة، وتوسيع الأفق المعرفي، وتعميق النظر في المفاهيم اللغوية من منظور تاريخي–ثقافي. لذا، فإن إعادة بناء التصورات الدلالية في ضوء المناهج اللسانية المعاصرة تمثّل خطوة ضرورية لإثراء الفكر اللغوي العربي، وتعزيز وعي الباحثين بأصول المفاهيم التي يتعاملون معها في دراساتهم اليوم.

المصادر:

  1. بيطار، د.، وطحان، ض. (1997). فنون التقعيد وعلوم الألسنية، بيروت: المؤسسة الجامعية للدراسات.
  2. عمر، أحمد مختار. (1986). علم الدلالة ، القاهرة : عالم الكتب، الطبعة الخامسة.
  3. الداية، فايز. (2003). علم الدلالة العربي: النظرية والتطبيق،دمشق: دار الفكر، الطبعة الثانية.
  4. نشار، علي سامي. (1947). منهج البحث عند مفكري الإسلام، القاهرة: دار الفكر العربي.
  5. الفارابي. (1999). إحصاء العلوم، القاهرة : الهيئة العامة لقصور الثقافة.
  6. الغزالي، أبو حامد. (1993). المستصفى من علم الأصول، ط1، بيروت: دار الكتب العلمية.
  7. ابن خلدون. (1981). المقدمة، بيروت : دار القلم.
  8. الشافعي، محمد بن إدريس .(1979). الرسالة، تحقيق: أحمد شاكر، القاهرة : دار التراث.
  9. الجاحظ، أبو عثمان عمرو بن بحر. (1968). البيان والتبيين، تحقيق عبد السلام هارون، ط4، القاهرة : مكتبة الخانجي.
  10. ابن سينا. (1984). العبارة من كتاب الشفاء ، تحقيق: سليمان دنيا، بيروت : دار الأندلس .
  11. ابن جني، أبو الفتح عثمان.(1952). الخصائص، تحقيق: محمد علي النجار، القاهرة : دار الهدى.
  12. الجرجاني، علي. (1983). التعريفات، بيروت: دار الكتب العلمية.
  13. روبنز، روبرت. (2000). موجز تاريخ علم اللغة في الغرب، ترجمة: أحمد محمد قدور، دمشق : دار الفكر.
  14. العشماوي، محمد زكي. (1995). قضايا النقد الأدبي بين القديم والحديث،ط1، القاهرة: دار المعارف.

الهوامش:

  1. الكتب الثمانية: هي نص سنسكريتي قديم، تم شرحه ضمن الدراسات الحديثة في أصول اللغة السنسكريتية.