تزكية النفس في القرآن الكريم: دراسة تحليلية لخصوصية الدور النبوي في تأصيلها وتطبيقها
Self-purification in the Holy Qur’an: An analytical study of the specificity of the prophetic role in establishing and applying it
د. زينب طه العلواني1، أ.د. رقية طه العلواني2
1 جامعة هاوورد، الولايات المتحدة الأمريكية.
2 جامعة البحرين، البحرين
بريد الكتروني: drruqaia@yahoo.com
DOI: https://doi.org/10.53796/hnsj65/3
المعرف العلمي العربي للأبحاث: https://arsri.org/10000/65/3
المجلد (6) العدد (5). الصفحات: 27 - 43
تاريخ الاستقبال: 2025-04-07 | تاريخ القبول: 2025-04-15 | تاريخ النشر: 2025-05-01
المستخلص: يتناول هذا البحث مفهوم التزكية في القرآن الكريم، مع إبراز خصوصية دور النبي محمد ﷺ في تأصيله وتطبيقه. وتبرز أهمية ذلك الدور من خلال النص عليه ضمن المهام الرئيسة للرسول ﷺ في آيات البقرة (129، 151)، آل عمران (164)، والجمعة (2). واعتمد البحث منهجية علمية متكاملة تجمع بين المنهج الاستقرائي، والتحليلي في دراسة دلالات النصوص، والنقدي والمقارن لبيان خصوصية التزكية النبوية. كما قدّم البحث تأصيلاً لغوياً وقرآنيا لمفهوم التزكية، وأظهر خصوصية منهج النبي ﷺ في التزكية من خلال سمات فريدة، أبرزها: الشمولية والتكامل، التوازن والاعتدال بين مطالب الروح والجسد، العالمية والقابلية للتكيف مع مختلف البيئات، والتطبيق العملي من خلال القدوة النبوية. كما استعرض البحث بعض الوسائل المتنوعة لهذا المنهج: كتصحيح العقيدة، والعبادات المفروضة، والأمر بالمعروف. وخلصت الدراسة إلى استمرارية التزكية النبوية في الأمة وتحققها من خلال منظومة متكاملة من الآليات المنهجية وتجلياتها في النسيج الحضاري للأمة، متجسدة في: المنظومة المتكاملة لتلاوة القرآن الكريم وتدبره، واستيعاب السنة النبوية وتفعيلها، والتأسي بهديه ﷺ في منهجية التزكية والتعليم، مما يؤكد استمرارية الأثر التزكوي النبوي في بناء الشخصية المسلمة، كما إن المنهج النبوي يتميز بخصائص تجعله صالحاً للتطبيق في كل زمان ومكان، وقدّم البحث توصيات علمية وعملية، أهمها: إجراء دراسات تطبيقية معمقة حول تفعيل منهج التزكية النبوية في المجتمعات المعاصرة، وتطوير مناهج تعليمية متكاملة للتزكية تناسب المراحل العمرية المختلفة.
الكلمات المفتاحية: التزكية، القرآن الكريم، السنة النبوية، التربية الإسلامية، المنهج النبوي.
Abstract: This research addresses the concept of tazkiyah (self-purification) in the Holy Quran, highlighting Prophet Muhammad's (PBUH) distinctive role in establishing and implementing it. The importance of this role is emphasized through its mention among the Prophet's primary missions in verses of Al-Baqarah (129, 151), Āl 'Imrān (164), and Al-Jumu'ah (2). The study employs an integrated scientific methodology combining inductive, analytical, comparative, and critical approaches. It provides a precise linguistic and Quranic foundation for the concept of tazkiyah, and reveals the uniqueness of the Prophet's approach through distinctive characteristics: comprehensiveness and integration, balance between spiritual and physical needs, universality and adaptability to various environments, and practical application through prophetic example. The research examines the Prophet's diverse means of tazkiyah: correcting beliefs, prescribed worship, and enjoining good. The study concludes that prophetic tazkiyah continues in the Muslim community through an integrated system of methodological mechanisms manifested in three main areas: the comprehensive system for reciting and contemplating the Quran, comprehending and activating the Prophetic Sunnah, and following his guidance in purification and education methodologies. This confirms the continuity of the prophetic tazkiyah influence in building the Muslim personality and demonstrates that the prophetic approach possesses characteristics making it suitable for application in all times and places. The research presents recommendations, most importantly: conducting applied studies on activating the prophetic tazkiyah methodology in contemporary societies and developing integrated educational curricula for various age groups.
Keywords: Tazkiyah, Holy Quran, Prophetic Sunnah, Islamic Education, Prophetic Methodology.
المقدمة
يشكل موضوع التزكية محوراً رئيساً في القرآن الكريم، إذ يمثل مقصداً أساسياً من مقاصد البعثة النبوية وغاياتها السامية. وقد تجلى هذا المقصد في الآيات القرآنية التي تحدد المهام الرئيسة للرسول محمد ﷺ، حيث تكررت الإشارة إلى التزكية في أربع آيات محورية في سور البقرة وآل عمران والجمعة، مما يؤكد مركزية هذا المفهوم في الرسالة المحمدية.
وتبرز خصوصية النبي محمد ﷺ في التزكية من خلال تفرده بمنهج متكامل يجمع بين التطهير والتنمية، وبين الفرد والمجتمع، وبين النظرية والتطبيق. فقد استطاع ﷺ أن يقدم نموذجاً فريداً في تزكية النفوس وتهذيب الأخلاق، تجاوز حدود الزمان والمكان، وأثبت فاعليته في بناء الإنسان المسلم والمجتمع الإسلامي عبر العصور.
ويكتسب هذا البحث أهمية خاصة في عصرنا الحاضر، حيث تتعرض المجتمعات الإنسانية لأزمات أخلاقية وروحية متلاحقة، نتيجة طغيان النزعة المادية وتراجع القيم الروحية والأخلاقية. الأمر الذي أدى إلى ظهور اتجاهات متعددة تدّعي تزكية النفس بعيداً عن المنهج النبوي الأصيل، مستغلة حاجة الإنسان المعاصر الملحة للغذاء الروحي. وهنا تبرز الحاجة الماسة إلى إعادة اكتشاف المنهج النبوي في التزكية من خلال تدبّر آيات القرآن التي نصّت بشكل مباشر على دوره عليه الصلاة والسلام واستمراريته من خلال الآليات المنهجية التي كشفت عنها الدراسة، التي تضمن التوازن بين متطلبات الروح واحتياجات الحياة المعاصرة، وتفعيله في الواقع المعاصر.
إشكالية البحث
تتمحور إشكالية البحث حول سؤال مركزي: ما خصوصية الدور النبوي في تأصيل مفهوم التزكية وتطبيقه؟ ويتفرع عن هذا السؤال المركزي أربعة أسئلة رئيسة:
- ما المفهوم القرآني الشامل للتزكية وما أبعاده المختلفة؟
- ما أوجه تميز منهج النبي محمد ﷺ في التزكية مقارنة بمناهج الأنبياء السابقين؟
- كيف طبق النبي ﷺ منهج التزكية عملياً في بناء الفرد المسلم والمجتمع الإسلامي؟
- ما الآليات التي توضّح استمرار أثر التزكية النبوية بعد وفاته ﷺ؟
أهمية الدراسة
تكتسب هذه الدراسة أهميتها من عدة اعتبارات:
- التأصيل العلمي الدقيق لمفهوم التزكية في القرآن الكريم، وتمييزه عن المفاهيم المشابهة، مما يسهم في تصحيح الفهم المغلوط لهذا المفهوم المحوري.
- الكشف عن الخصائص الفريدة للمنهج النبوي في التزكية، وإبراز تكامله وشموله وقدرته على معالجة قضايا النفس البشرية في مختلف الظروف والأحوال.
- استخلاص المنهجية العملية التي اتبعها النبي ﷺ في التزكية؛ مما يقدم نموذجاً تطبيقياً يمكن الاستفادة منه في واقعنا المعاصر.
منهجية البحث
استند البحث إلى منهجية علمية متكاملة تجمع بين ثلاثة مناهج رئيسة:
- المنهج الاستقرائي: تم توظيفه في تتبع النصوص القرآنية والأحاديث النبوية المؤسِّسة لمفهوم التزكية وجمع المادة العلمية من مصادرها الأصيلة.
- المنهج التحليلي: مكّن من دراسة هذه النصوص وتحليل دلالاتها وأبعادها المختلفة والكشف عن العلاقات المنهجية بين مفاهيمها المتعددة.
- المنهج النقدي: أتاح تقويم الدراسات السابقة في مجال التزكية وتحليل نتائجها واستخلاص التوصيات العملية المناسبة للواقع المعاصر.
كما اعتمد البحث على المنهج الاستنباطي في استخلاص معالم الدور النبوي التزكوي الذي أسسه القرآن الكريم وأكده في مواضع متعددة، مما ساعد في بلورة تصور متكامل لآليات التزكية وأبعادها. وقد أسهم هذا التكامل المنهجي في تقديم رؤية شمولية لموضوع التزكية وآلياتها المنهجية.
الدراسات السابقة
تعد تزكية النفس من أهم مقاصد البعثة النبوية الشريفة، حيث أشار القرآن الكريم إلى هذا المقصد العظيم في عدة آيات. من هنا يوجد عدد من الدراسات التي تناولت هذا الجانب من زوايا مختلفة:
- “تزكية النفس من خلال نصوص القرآن والسنة) (محمد، 2020) دراسة تناولت موضوع تزكية النفس بشكل مباشر استناداً إلى النصوص القرآنية والأحاديث النبوية. تناولت الدراسة مفهوم تزكية النفس من منظور القرآن والسنة النبوية، وأوضحت أن رسالة الإسلام رسالة علم وبناء وحضارة، وأن حملة الرسالة هم خير أمة أخرجت للناس. كما بينت الدراسة أهداف تزكية النفس وأثرها في تهذيب الأخلاق وإصلاح المجتمع.
- “الأسس العقدية والعلمية في تزكية النفس” دراسة أكاديمية (سمر، 2023) تهدف إلى توضيح الأسس العقدية والعلمية التي تقوم عليها تزكية النفس في الإسلام. قسمت الباحثة دراستها إلى خمسة مباحث رئيسية: تعريف تزكية النفوس، أهمية التزكية، الأسس العقدية في تزكية النفس، الأسس العلمية في تزكية النفس، وثمرات تزكية النفس في المنهج الإسلامي. اعتمدت الدراسة على المنهج الوصفي التحليلي المكتبي، وخلصت إلى أن ترسيخ الإيمان هو أقوى سبب لتزكية النفوس.
- “أساليب التزكية المستفادة من شرح الإمام ابن أبي جمرة لحديث بدء الوحي: دراسة تحليلية” بحث علمي قدم في مؤتمر حديثي، ونُشر ضمن وقائع المؤتمر الذي نظمه معهد بحوث الحديث (INHAD) بالجامعة الإسلامية الدولية بكلية سيلانجور، ماليزيا. يهدف البحث إلى تسليط الضوء على أساليب تزكية النفس الواردة في حديث بدء الوحي عند الإمام ابن أبي جمرة، لكونه علماً بارزاً في شرح الحديث وفي جانب تزكية النفوس. تناول البحث (2018) الأساليب التي اتبعها جبريل عليه السلام في أول لقاء له مع النبي صلى الله عليه وسلم، وكيفية الاستفادة من هذه الأساليب في تأصيل قواعد تزكية النفس وتربيتها.
- “من مقاصد السيرة النبوية: تزكية النفوس” نُشر هذا المقال على موقع الرابطة المحمدية للعلماء، ويتناول مقصداً أساسياً من مقاصد السيرة النبوية وهو تزكية النفوس. يستهل المقال (الرابطة المحمدية للعلماء، د.ت (بإيراد قول عميق لابن القيم يؤكد فيه أن تزكية النفوس هي مهمة أساسية لجميع الرسل، حيث بعثهم الله لهذا الغرض وأوكل إليهم هذه المهمة التي تتم من خلال الدعوة والتعليم والبيان والإرشاد، وليس من خلال الخلق المباشر أو الإلهام.
- “من جوامع الأدعية النبوية في تزكية النفوس” هذا المقال (الشامي، 2017 ( يركز على دراسة الأدعية النبوية المتعلقة بتزكية النفس وتطهيرها، ويكشف عن أهمية هذه الأدعية في المنهج النبوي للتزكية.
- “تزكية النفس في أدعية النبي صلى الله عليه وسلم” نُشر هذا المقال على شبكة الألوكة الإلكترونية (2017) ويتناول موضوع دور الدعاء في إصلاح النفس وتزكيتها. يؤكد المقال أهمية الدعاء ودوره العظيم في إصلاح النفس البشرية وتهذيبها، ويبين كيف اتخذ النبي صلى الله عليه وسلم من الدعاء وسيلة أساسية في تزكية نفسه وتعليم أصحابه.
- مقاصد القرآن في تزكية الإنسان ) النجار، 2019) تميزت هذه الدراسة بتقديم رؤية تكاملية لمفهوم التزكية القرآنية، حيث اعتمد الباحث منهجية التحليل المقاصدي التي تجاوزت النظرة التقليدية المقتصرة على البُعد الروحي الفردي. كشفت النتائج عن توازن دقيق بين الجوانب الروحية والمادية في عملية التزكية، مع تأكيد البُعد الجماعي عبر آليات التعاون الاجتماعي.
- “النظر العقلي وأثره في تزكية النفوس(حوى، 2008 ( ناقشت هذه الدراسة العلاقة الجدلية بين التفكير العقلي والتربية الروحية. استندت إلى منهج نقدي تحليلي لكشف محدودية الاتجاهات الصوفية التي تفصل بين “الأذواق” الروحية والأدلة العقلية. أثبتت النتائج أن الإيمان الحق يقوم على فهم العقائد عبر البراهين العقلية، وأن الأخلاق الإسلامية ترتبط عضوياً بالمصالح الواقعية.
- “التوحيد والتزكية والعمران تقدّم هذه الدراسة (العلواني، 2012) مفهومًا تجديديًا للتزكية يربطها بمنظومة ثلاثية: والتزكية (كآليةٍ أخلاقية)، والعمران (كغايةٍ حضارية). تتحول التزكية هنا من مفهومٍ فرديٍ ضيق إلى مشروعٍ مجتمعيٍ ديناميكي يشمل ثلاثة أبعاد:
- البعد الفردي: توازنٌ بين الروح والمادة عبر العبادات والعلم الشرعي والمحاسبة الذاتية.
- البعد الاجتماعي: عدالةٌ اقتصاديةٌ تُجسِّد التكافل (كالمؤاخاة النبوية) وتُحارب الاستغلال (كتحريم الربا).
- البعد البيئي: استدامةٌ تعكس الاستخلاف الإلهي عبر حماية الموارد.
التحليل النقدي للدراسات السابقة
تميزت الدراسات السابقة بتنوع منهجي ملحوظ، حيث جمعت بين التحليل النصي العميق في الدراسات التأصيلية والرصد الميداني الدقيق في الأبحاث التطبيقية. كما برزت محاولات جادة لسد الفجوة بين التنظير والتطبيق من خلال النماذج المقترحة، وقد أسهمت الدراسات المقارنة في وضع المفهوم الإسلامي ضمن سياقه الحضاري الأوسع.
إلا أنه على الرغم من الثراء النظري، ومن خلال التحليل النقدي للدراسات السابقة، تتضح فجوة بحثية رئيسية تتمثل في غياب دراسة منهجية شاملة تتناول الممارسة النبوية الفعلية للتزكية في سياقها التاريخي والاجتماعي، مع تحليل معمق لآلياتها وأدواتها وتطورها عبر مراحل الدعوة المختلفة. فقد غلب على الدراسات السابقة إما التوجه النظري المفاهيمي، أو التناول التجزيئي لجوانب محددة من التزكية النبوية، أو الاكتفاء بالاستقراء التجميعي للنصوص دون تحليل عميق للسياقات والممارسات.
من هنا يأتي هذا البحث للمساهمة في سد هذه الفجوة من خلال تقديم دراسة منهجية متكاملة للممارسة النبوية في مجال تزكية النفس، وتجاوز الثغرات السابقة عبر الجمع بين ثلاث دوائر معرفية: التأصيل الشرعي المستند إلى النصوص، وتحليل المنهج النبوي في التزكية واستمراره بعد وفاته عليه الصلاة والسلام.
المبحث الأول: مفهوم التزكية في القرآن الكريم
أولاً: التأصيل اللغوي والاصطلاحي للتزكية
تعود مادة “زكو” في اللغة العربية إلى أصل يدل على النماء والزيادة والطهارة. يقول ابن فارس في معجم مقاييس اللغة: “الزاء والكاف والحرف المعتل أصل يدل على نماء وزيادة” (ابن فارس، 1979، ج3، ص17). وقد وردت مشتقات هذا الجذر في معاجم اللغة العربية بمعانٍ متقاربة:
- النماء: كما في قولهم “زكا الزرع” إذا نما وازداد
- الطهارة: كما في “زكت النفس” إذا طهرت
- البركة: كما في “مال زاكٍ” أي مبارك
- الصلاح: كما في “رجل زكي” أي صالح
كما تأتي تزكية النفس في اللغة بمعنى المديح والثناء عليها، وهذا النوع منهي عنه بدليل قوله تعالى: ﴿أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُزَكُّونَ أَنْفُسَهُمْ بَلِ اللَّهُ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ وَلَا يُظْلَمُونَ فَتِيلًا﴾ (سورة النساء:49). وقال في موضع آخر: ﴿فَلَا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى﴾ (سورة النجم:32).
وهذا المعنى مأخوذ من زكى أي ارتفع وعلا، كما في زكا الزرع (طال ونما) من العلو، ومن هنا جاء المعنى يزكي نفسه أي يرفعها بمعنى يفخمها ويطريها ويثني عليها.
المعنى الاصطلاحي
تعددت تعريفات العلماء للتزكية اصطلاحاً:
لفظ (التزكية) نفسه يعبّر عن وصف ومنهج، فالتزكية في اللغة يدور معناها على أمرين، النماء والتطهير، أو كما يقال: التخلية والتحلية، فمن أراد تزكية نفسه حقًّا، فعليه أن يجمع بين الأمرين معًا، تنمية النفس بطاعة الله، وفي نفس الوقت تطهيرها من المعاصي، بل إنّ التخلية تسبق التحلية؛ فالذي يريد أن يبني بناءً عاليًا على أرضٍ ما، لا بد أن يطهر هذه الأرض أوًلا، ثم بعد ذلك يكون البناء على أرض صلبة راسخة، وهكذا تُبنى النفوس الزكية.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: «وأصل الزكاة الزيادة في الخير، ومنه يقال: زكا الزرع وزكا المال؛ إذا نما. ولن ينمو الخير إلا بترك الشّر، كالزرع الذي لا يزكو حتى يُزال عنه الدغل، فكذلك النفس والأعمال لا تزكو حتى يُزال عنها ما يناقضها، ولا يكون الرجل متزكّيًا قد زُكّي إلا مع ترك الشّر؛ ومَن لم يترك الشّر لا يكون زاكيًا البتة، فإنّ الشر يدنّس النفس ويدسّيها» (ابن تيمية، 1995، ج10، ص629).
عرفها ابن القيم (1996) بأنها: “تنمية النفس بالمعارف النافعة والأعمال الصالحة، وتطهيرها من العقائد الفاسدة والأخلاق الرذيلة” (ج2، ص46).
وعرفها دراز (1998) بأنها: “عملية تربوية شاملة تستهدف تنمية الإنسان روحياً وخلقياً وسلوكياً” (ص215).
ثانيا: دلالات مصطلح التزكية في القرآن الكريم
يتجلى البعد المنهجي الدقيق في توظيف القرآن الكريم لمصطلح “التزكية” عبر الصيغ الفعلية، وتحديداً المضارع منها مثل “يزكيهم”، في إطار استراتيجية دلالية محكمة. لم يكن هذا التوظيف اعتباطياً، بل يعكس رؤية قرآنية عميقة تستهدف استدامة المفهوم وشموليته، بحيث يظل قادراً على التكيف مع المتغيرات الثقافية والاجتماعية المختلفة، محققاً بذلك الغاية الجوهرية للخطاب القرآني المتمثلة في الهداية والتزكية.
تحمل هذه الصيغ الفعلية دلالات الحركة والتجدد والاستمرارية، في مقابل ما تحمله المصادر من معاني الثبات والتجريد. ويمكن تحليل هذا التوظيف اللغوي المحكم وفق الأبعاد التالية:
ترسيخ البعد التطبيقي العملي
يتجاوز القرآن المستوى النظري المجرد في مفاهيم التزكية والتعليم والتلاوة، ليؤسس لها كممارسات حية ومستمرة. يتضح ذلك جلياً في قوله تعالى: ﴿يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ﴾ [آل عمران: 164]، حيث تشير صيغة المضارع إلى استمرارية الفعل وتجدده، مما ينفي عنه صفة الجمود.
تأصيل العلاقة بين الفعل والفاعل
تضطلع الصيغة الفعلية بإبراز محورية الفاعل وإسناد الفعل إليه، مما يؤكد المسؤولية المشتركة للإنسان والرسول صلى الله عليه وسلم في المنظومة التربوية الإسلامية، وهذا يعزز مبدأ الفاعلية والمشاركة في عملية التزكية.
تأطير العملية التربوية زمنياً
تسهم الصيغة الفعلية في تحديد الإطار الزمني للعملية التربوية (ماضياً، حاضراً، مستقبلاً)، مما يمنحها بعداً تاريخياً وتطبيقياً، ويساعد على فهمها ضمن سياقاتها الزمنية المختلفة.
إن هذا التوظيف للصيغ الفعلية في سياق التزكية ينسجم تماماً مع المنهجية التربوية القرآنية التي تولي الأولوية للممارسة والتطبيق على حساب التنظير المجرد. فالتزكية في جوهرها ممارسة عملية قبل أن تكون نظرية مجردة، وهو ما يعكس البعد البراغماتي في المنهج التربوي القرآني.
ثالثا: التزكية والمصطلحات المقاربة
تشكّل المفاهيم القرآنية المتعلقة بتنمية النفس الإنسانية وتطهيرها نسيجًا مفاهيميًا متداخلًا تتفاعل فيه المصطلحات لتُنتج رؤيةً شاملةً للبناء الروحي والأخلاقي. وتبرز الحاجة إلى تفكيك هذه المصطلحات عبر منهجية علمية دقيقة تراعي السياقات اللغوية والشرعية والتطبيقية.
مصطلح “التزكية” من الجذر (ز ك و) الحامل لمعاني النماء والزيادة، حيث تُعَدُّ العملية التزكوية في القرآن الكريم مسارًا ثنائي الأبعاد: تطهير النفس من الرذائل (السلبية) وإنماء الفضائل (الإيجابية). يؤكد ابن كثير في تفسيره أن التزكية “تشمل التخلية من الأخلاق الذميمة والتحلية بالأخلاق الحميدة” (ابن كثير، 1999، ج2، ص340)، مما يجعلها مفهومًا شاملاً يتجاوز مجرد الإزالة إلى البناء.
وهنا تتجلى ثنائية التزكية في قوله تعالى: ﴿قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا﴾ (الشمس:9)، حيث تشير الآية إلى التفاعل بين الجهد البشري في التطهير والعطاء الإلهي في التنمية. وعلى هذا تُمثّل التزكية عملية ديناميكية مستمرة تبدأ بالتوبة كمدخل للتطهير وتنتهي بالتقوى كغاية للتنمية الروحية، وفق ما أشارت إليه الدراسات المعاصرة في التربية الإسلامية (النحلاوي، 2010).
-
- التزكية والتطهير
يستند مصطلح “التطهير” إلى الجذر (ط ه ر) الدال على النقاء المادي والمعنوي. فالتطهير أصله من الطهارة، وهي النظافة والنقاء وخلوص الشيء من الدنس. أما التزكية فهي من الزكاة، وتحمل معنيين أساسيين: التطهير، والنماء والزيادة.
قال ابن فارس في مقاييس اللغة: “الطاء والهاء والراء أصل واحد يدل على نقاء وزوال دنس.” وقال: “الزاي والكاف والحرف المعتل أصل يدل على نماء وزيادة” (ابن فارس، 1979، ج3، ص428).
وتعتبر مفاهيم الطهارة والتطهير من الركائز الأساسية في التشريع الإسلامي، حيث تؤطران منظومة النقاء الجسدي والروحي في الإسلام. وفي تناول القرآن الكريم لمفهوم التطهير؛ تتضح ثنائية دلالية جوهرية، تتجلى في مستويين متكاملين:
- المستوى المادي المحسوس: يتمثل في تطهير الأماكن المقدسة وتنقيتها من الشوائب الحسية، كما يتضح في السياق القرآني في قوله تعالى: ﴿وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ﴾ [البقرة: 125].
- المستوى المعنوي : يتجسد في تنقية القلوب من الشرك والرذائل الأخلاقية، وهو ما يظهر في الخطاب القرآني في مواضع متعددة، منها قوله تعالى في سياق تطهير القلوب من الشرك في سورة المائدة، الآية 41.
ويستدعي التحليل الدقيق لمفهوم التطهير ضرورة الإدراك التمييزي بينه وبين مفهوم الطهارة، إذ يمثل التطهير عملية إرادية فاعلة تُفضي إلى حالة الطهارة المنشودة. ويتجلى هذا التمايز في:
- التطهير المادي: يخضع لمعايير موضوعية قابلة للقياس والملاحظة كإزالة النجاسات والأقذار.
- التطهير المعنوي: يرتكز على العمليات النفسية الداخلية كالتوبة والإنابة، مما يضفي عليه طابعاً أكثر تعقيداً وعمقاً في بنية الشخصية الإنسانية.
أما الطهارة فتأتي على أنواع:
- الطهارة الحُكمية: وهي المرتبطة بالأطر التشريعية للعبادات، كشرط أساسي لصحة الصلاة وغيرها من العبادات.
- الطهارة المعنوية: تتمثل في تزكية النفس وتطهير القلب من الشوائب المعنوية، كما يتجلى في النص القرآني: ﴿وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا﴾ [الأحزاب: 33].
ويعتمد المنهج القرآني في بناء مفهوم الطهارة على استراتيجية تربوية محكمة تتأسس على التدرج من المحسوس إلى المجرد. إذ يؤسس القرآن الكريم لمفهوم الطهارة الحسية في آيات متعددة، كقوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ﴾ [المائدة: 6]، ثم ينتقل إلى ربط هذه الممارسات الحسية بالمفاهيم المعنوية المجردة في قوله تعالى: ﴿إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ﴾ [البقرة: 222].
وتتميز المنهجية القرآنية بتأسيسها لنظام تربوي متكامل يجمع بين الطهارة المادية المتمثلة في الممارسات العملية كالوضوء والغسل، والطهارة المعنوية المتجلية في تزكية النفس وتطهير القلب. كما يراعي المنهج القرآني الأبعاد النفسية والتربوية في بناء السلوك من خلال:
- الاستجابة للفطرة الإنسانية في حب النظافة
- التدرج في بناء السلوك الإيجابي
- الربط الوثيق بين الطهارة والعبادة، كما يتضح في قوله تعالى: ﴿فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَن يَتَطَهَّرُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ﴾ [التوبة: 108]
وتتنوع دلالات الطهارة في السياق القرآني لتشمل أبعاداً متعددة:
- الطهارة الدينية: تنصرف إلى التطهر من الشرك والكفر، كما في قوله تعالى: ﴿وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ﴾ [البقرة: 125]
- الطهارة الأخلاقية: تتمثل في تزكية النفس من الصفات المذمومة، كما في قوله تعالى: ﴿وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَى مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَدًا وَلَكِنَّ اللَّهَ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ﴾ [النور: 21]
- الطهارة البدنية: تتضمن الممارسات التعبدية كالوضوء والغسل، كما في قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ﴾ [المائدة: 6]
والمنهج القرآني في التربية، الذي يبدأ بالطهارة الحسية وينتقل إلى الطهارة المعنوية، يتوافق مع النتائج العلمية الحديثة في مجال التربية وعلم النفس والدراسات العصبية، مما يؤكد صلاحيته وفاعليته في بناء الشخصية المتكاملة.
وتشير أبحاث التربية الأخلاقية إلى أن تعليم القيم يكون أكثر فاعلية عندما يرتبط بممارسات عملية. ويتشكل السلوك الأخلاقي تدريجياً من خلال الممارسة المتكررة، كما إن الربط بين السلوك الظاهر والقيم الباطنة يعزز الالتزام الأخلاقي. تشير أبحاث في علم النفس التربوي إلى أن الممارسة العملية تُحفز الذاكرة الإجرائية (Procedural Memory)، التي تُخزن المهارات المكتسبة عبر التكرار، مما يجعل السلوك الأخلاقي أكثر تلقائية بمرور الوقت (سميث وجونسون، 2018).
كما يُلاحظ أن القرآن الكريم جمع بين التطهير والتزكية في آية واحدة: ﴿خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِم بِهَا﴾ [التوبة: 103]. يقول الماوردي: “التطهير هو إزالة الشيء السيئ، والتزكية هي وضع الشيء الحسن، فالتطهير يشير إلى التخلية، والتزكية تشير إلى التحلية” (الماوردي، 1992، ج2، ص385).
ويوضح ابن عاشور: “هذا الجمع بين التطهير والتزكية من باب الترقي في الكمال: أولاً إزالة الوصف المذموم (التطهير)، ثم إيجاد الوصف المحمود (التزكية)” (ابن عاشور، 1984، ج10، ص247). الأمر الذي يدل على أن العلاقة بين التطهير والتزكية علاقة تكاملية. فالتطهير مقدمة للتزكية.
أوجه المقارنة بين التزكية والتطهير
تبرز المقارنة بين مفهومي التزكية والتطهير الفروق الدقيقة بينهما في عدة جوانب:
- من حيث المعنى: التطهير يركز على الإزالة والتنقية، بينما تشمل التزكية التنقية والتنمية معاً.
- من حيث المجال: التطهير يشمل الجانب المادي والمعنوي، والتزكية تركز على الجانب المعنوي والروحي.
- من حيث العلاقة: التطهير غالباً ما يكون مقدمة للتزكية ومرحلة أولية منها.
- من حيث الغاية: غاية التطهير هي إزالة النقائص، وغاية التزكية هي تحقيق الكمال الإنساني.
- من حيث الشمول: التزكية أشمل من التطهير، فكل تزكية تتضمن تطهيراً وليس العكس.
– التزكية والتربية
تنطلق “التربية” من جذر (ر ب ب) الدال على السيطرة والتنمية، أو (ر ب و) المرتبط بالزيادة والإصلاح. يقول الراغب الأصفهاني: “الرب في الأصل: التربية، وهو إنشاء الشيء حالاً فحالاً إلى حد التمام” (الأصفهاني، 2009، ص189). وتشير دراسات اللغة العربية إلى أن لفظ “تربية” يحمل معاني الرعاية والنماء والإصلاح (الزبيدي، 1994، ج2، ص292).
يجمع المفهوم القرآني للتربية بين هذين البعدين في قوله تعالى: ﴿رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ﴾ (البقرة:129)، حيث تجتمع مهمة التزكية (البناء الروحي) مع التعليم (البناء المعرفي) في إطار متكامل.
وقد أشار كلٌ من الغزالي وابن القيم إلى أن التربية الإسلامية تتجاوز نقل المعارف إلى بناء الذات الإنسانية بأبعادها المختلفة (الغزالي، 2005، ج1، ص15؛ ابن القيم، 1994، ص72). وتؤكد يلجن (2013) أن التربية الإسلامية تتميز بخصوصيتها الشمولية التي تجمع بين الإعداد الروحي والأخلاقي والعقلي والمعرفي للإنسان.
وتتضمن العملية التربوية في الإسلام ثلاثة أركان رئيسية:
- التهذيب: يمثل عملية تطهير النفس من العيوب الأخلاقية والسلوكية، وهو ما يتوافق مع البعد التطهيري للتزكية. يقول ابن مسكويه: “التهذيب هو تنقية النفس من الرذائل وتخليصها من النقائص” (ابن مسكويه، 1982، ص47).
- التعليم: يشير إلى إكساب المعارف والمهارات اللازمة للفرد، وهو ما يتوافق مع البعد المعرفي للتزكية. يرى الماوردي أن “التعليم يُخرج النفس من ظلمات الجهل إلى نور المعرفة” (الماوردي، 1985، ص126).
- التأديب: يهدف إلى صقل السلوك الاجتماعي للفرد وتكوين شخصيته المتوازنة، وهو ما يتوافق مع البعد السلوكي للتزكية. يؤكد ابن سحنون أن “التأديب يُكسب المرء محاسن الأخلاق ويُجنبه مساوئها” (ابن سحنون، 1972، ص31).
وقد أظهرت الدراسات المقارنة في فلسفة التربية (العطاس، 2011؛ الكيلاني، 2018) أن هذا التكامل في أركان التربية الإسلامية يجعلها منهجًا شموليًا يتجاوز النماذج التربوية الغربية القائمة على التخصصية والفصل بين المجالات المعرفية والقيمية والسلوكية. وتشير دراسة الرماني (2020) إلى أن التكامل بين هذه الأركان الثلاثة يساهم في تحقيق الاتزان النفسي والسلوكي للفرد المسلم.
وفي السياق المعاصر، يؤكد الباحثون (النقيب، 2017؛ مدكور، 2014) أن استعادة هذا المنظور التكاملي للتربية يمثل ضرورة منهجية لمواجهة التحديات الناجمة عن الانفصال بين العلم والقيم، وبين التطور المادي والنمو الأخلاقي في المجتمعات المعاصرة.
المبحث الثاني: تحليل آيات التزكية في سياق الرسالة المحمدية: دراسة في المنهج والخصوصية
أولا: البنية اللغوية والتركيبية للآيات
تتجلى خصوصية البناء اللغوي لآيات التزكية في عدة مستويات دلالية بارزة. تظهر الصيغة المضارعة للفعل “يزكيهم” في جميع الآيات الأربع المتعلقة بالبعثة النبوية (البقرة: 129، 151؛ آل عمران: 164؛ الجمعة: 2)، محملة بدلالات عميقة:
- الاستمرارية الزمنية: تشير إلى كون التزكية عملية مستدامة ومتجددة، وليست حدثاً منقطعاً أو طارئاً. وهذا ما يؤكده الزمخشري في تفسيره بقوله: “صيغة المضارع تدل على تجدد الفعل واستمراره في الزمن” (الزمخشري، 1987، ج1، ص345).
- التجدد الوظيفي: ترمز إلى التجدد المستمر لعملية التزكية واستيعابها للمتغيرات والمستجدات. ويشير ابن القيم إلى هذا المعنى بقوله: “التزكية ليست عملاً منتهياً، بل هي مسار متجدد يواكب تطورات النفس الإنسانية” (ابن القيم، 1991، ج2، ص219).
- التدرج المنهجي: تعكس الطبيعة التطورية التصاعدية للنمو الروحي والأخلاقي. يقول السعدي في تفسيره: “يزكيهم أي يطهرهم بالتدريج من أدران الجاهلية” (السعدي، 2000، ص63).
يقدم ابن عاشور رؤية تحليلية عميقة لهذه الظاهرة بقوله: “استخدام صيغة المضارع للتزكية يشير إلى أنها عملية مستمرة تتطلب جهداً دائماً، على خلاف بعض الطقوس أو الإعلانات التي تتم مرة واحدة” (ابن عاشور، 1984، ج1، ص726).
وتتباين مواضع التزكية في الآيات القرآنية على نحو يكشف عن دلالات مقصودة:
- في دعاء إبراهيم (البقرة: 129): يتقدم التعليم على التزكية
- في الآيات الثلاث الأخرى (البقرة: 151، آل عمران: 164، الجمعة: 2): تتقدم التزكية على التعليم
يقدم الإمام الشعراوي تفسيراً دقيقاً لهذا التباين بقوله: “في آية (البقرة: 129) قدم إبراهيم عليه السلام التعليم على التزكية، بينما في آيات أخرى قُدمت التزكية على التعليم. وسر ذلك أن إبراهيم كان ينظر إلى التزكية كثمرة للتعليم، بينما الله تعالى في سورة الجمعة ينظر إلى التزكية كشرط للتعليم المثمر” (الشعراوي، 1997، ج2، ص812).
وتتجلى في النص القرآني ثلاثية متكاملة تشكل الهيكل الأساسي للرسالة النبوية:
- تلاوة الآيات: المصدر والمرجعية
- التزكية: التطهير والإعداد
- تعليم الكتاب والحكمة: التأصيل المعرفي والتطبيقي
ويرى الرازي في هذا الترتيب منهجية تربوية متكاملة بقوله: “هذا الترتيب يعكس منهجية التربية النبوية: أولاً تلقي الوحي، ثم تطهير النفس، ثم تلقي العلم. فكأن التزكية تمثل الجسر بين تلقي الوحي وفهمه وتطبيقه” (الرازي، 2000، ج4، ص372).
كما يظهر في جميع الآيات ربط مباشر بين فعل التزكية وشخص الرسول ﷺ:
- البقرة: 129: ﴿وَيُزَكِّيهِمْ﴾
- البقرة: 151: ﴿وَيُزَكِّيكُمْ﴾
- آل عمران: 164: ﴿وَيُزَكِّيهِمْ﴾
- الجمعة: 2: ﴿وَيُزَكِّيهِمْ﴾
يؤكد ابن القيم هذه الخصوصية بقوله: “تخصيص فعل التزكية بالنبي ﷺ يشير إلى أن هذه المهمة من خصائصه التي تفرد بها، فهو المزكي الأول للأمة بتفويض إلهي” (ابن القيم، 1991، ج3، ص156).
ثانيا: السياقات القرآنية لآيات التزكية النبوية
تتنوع السياقات القرآنية لآيات التزكية بشكل يكشف عن أبعادها المتعددة، ويمكن تصنيفها ضمن ثلاثة سياقات رئيسية:
1. التزكية في سياق دعوة إبراهيم عليه السلام: امتداد للرسالات وتواصل للأجيال
تأتي التزكية في دعاء إبراهيم عليه السلام عقب بناء البيت الحرام: ﴿رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ﴾ [البقرة: 129].
تحمل هذه الآية أبعاداً دلالية متعددة:
- الامتداد التاريخي: تربط بين بناء البيت الحرام وبعثة النبي محمد ﷺ. يقول البقاعي: “في هذا الدعاء إشارة إلى أن مهمة التزكية امتداد للرسالات السابقة، وليست منفصلة عنها” (البقاعي، 1995، ج1، ص248).
- العلاقة بين العبادات والتزكية: تؤسس للعلاقة بين التزكية والبيت الحرام من حيث طبيعة المكان: حيث يشير القرآن الكريم إلى أن البيت الحرام هو أول بيت وُضع للناس لعبادة الله، حيث يقول تعالى: {إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِّلْعَالَمِينَ} (آل عمران: 96). الأمر الذي يجعل من الطواف والصلاة والحج أدواتٍ فعالةً في تزكية النفس، تُذكِّر المؤمن بغاية وجوده وتعيد ترتيب أولوياته الروحية العبادات العظيمة المرتبطة بالبيت الحرام وتُعيد صياغة علاقة العبد بربه وتُطهّر قلبه من الشوائب ((Picken, 2005
ويُشكّل الطواف حول الكعبة تجسيدًا لمركزية التوحيد في حياة المسلم، حيث يُذكّر المؤمن بوحدانية الله وانعدام الاستقلالية عن مشيئته. يقول الشيخ بندر بليلة في خطبة بالحرم المكي: “الإلف بالعبادات كالطواف يُعيد ترتيب أولويات النفس ويجعلها أكثر انقيادًا لله” كما تُعد الصلاة في المسجد الحرام من الأعمال التي تُضاعف أجرها، حيث يُذكر في الحديث: “صلاة في مسجدي هذا أفضل من ألف صلاة فيما سواه إلا المسجد الحرام» (رواه البخاري). هذا التكريم المكاني يُحفّز المؤمن على تجديد نيته وإخلاصه، مما ينعكس على نقاء قلبه (IslamOnline, 2024).
- الامتداد العقدي: تبرز التزكية كامتداد لملة إبراهيم ودين التوحيد الخالص. يقول السيوطي: “التزكية جزء أصيل من ملة إبراهيم التي أمرنا باتباعها” (السيوطي، 2003، ج1، ص142).
2. التزكية في سياق المنّة الإلهية على المؤمنين
تظهر التزكية في سياق امتنان إلهي على المؤمنين: ﴿لَقَدْ مَنَّ اللّهُ عَلَى الْمُؤمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِّنْ أَنفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِن كَانُواْ مِن قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُّبِينٍ﴾ [آل عمران: 164].
تحمل هذه الآية دلالات عميقة:
- دلالة الامتنان: تأطير التزكية كنعمة ربانية ذات قيمة عليا. يقول القرطبي: “عدّ الله التزكية من أعظم المنن على عباده، مما يدل على أهميتها البالغة وضرورتها للإنسان” (القرطبي، 1964، ج4، ص249).
- دلالة التحول الحضاري: إبراز دور التزكية في نقل البشرية من الضلال إلى الهداية. يرى ابن كثير أن “التزكية كانت العامل الرئيس في تحويل العرب من حالة الضلال إلى قيادة البشرية” (ابن كثير، 1999، ج2، ص153).
- دلالة المنحة الإلهية: تأكيد أن التزكية منحة ربانية وليست مكتسباً بشرياً محضاً. يقول الطبري: “التزكية منّة من الله ولا تتحقق بالجهد البشري وحده” (الطبري، 2000، ج7، ص385).
3. التزكية في سياق التحول الحضاري للأميين
- تتجلى التزكية في سياق التحول الحضاري للأميين: ﴿هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلمهم الكتاب والحكمة﴾. ويشير الغزالي إلى أن التربية الروحية التي تعتمد على التزكية يمكن أن تحول الفرد والمجتمع من حالة الجهل إلى حالة القيادة الحضارية. التزكية ليست مجرد عملية فردية، بل هي أساس التحول الحضاري. عند تطهير النفوس وزرع القيم الأخلاقية، يصبح الأفراد قادرين على بناء مجتمعات عادلة ومستقرة. فالتزكية تعمل كعملية تربوية تُحوِّل الأفراد من حالة الجهل والانحراف إلى حالة الوعي والإصلاح، مما يؤدي إلى بناء حضارة متوازنة تجمع بين الروحانية والمادية. والقرآن الكريم استخدم منهجًا فريدًا لتحقيق التحول الحضاري من خلال التزكية. يشير الباحثون إلى أن القرآن لا يكتفي بتوجيه الأفراد نحو الخير، بل يُعلّمهم كيفية تجاوز العقبات النفسية والاجتماعية لتحقيق الإصلاح. يقول الله تعالى: “إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ” (الرعد: 11)، مما يبرز أهمية تغيير النفس كشرط أساسي لتغيير المجتمع فالقرآن كان القوة الدافعة وراء تقدم المجتمع الإسلامي في المجالات العلمية والثقافية والاجتماعية خلال العصر الذهبي للإسلام (Sulaiman, 2014).
ثالثا: خصائص منهج النبي عليه الصلاة والسلام في التزكية
يتميز المنهج التزكوي في رسالة النبي الكريم عليه الصلاة والسلام بخصائص فريدة تجعله متقدمًا على مناهج من سبقه من الأنبياء الكرام عليهم الصلاة والسلام مع كونه متمماً ومكملاً لرسالاتهم. فهو منهج شامل متكامل يتعامل مع الإنسان ككل غير مجزأ، ويحقق التوازن بين مختلف جوانب حياته، ويتسم بالعالمية والقدرة على التكيف مع مختلف البيئات والثقافات، ويتميز بالعمق في فهم النفس البشرية ومعالجة مشاكلها.
هذه الخصائص الفريدة تجعل المنهج التزكوي في رسالته وشخصه عليه الصلاة والسلام صالحاً لكل زمان ومكان، وقادراً على الاستجابة لمختلف التحديات والمستجدات، وهو ما يفسر استمراريته وفعاليته رغم مرور أكثر من أربعة عشر قرناً على ظهوره.
وفي عصرنا الحاضر الذي يشهد أزمات روحية ونفسية متعددة، يبرز هذا المنهج التزكوي النبوي كحل شامل وعميق لهذه الأزمات، ومنارة تهدي البشرية إلى سبل السعادة والطمأنينة في الدنيا والآخرة.
تتحقق خصوصية المنهج التزكوي النبوي في كونه ارتقى بمفهوم التزكية إلى آفاق أرحب وأعمق، فلم تعد التزكية مجرد تطهير للنفس من الأمراض والآفات، بل أصبحت عملية متكاملة لبناء الإنسان الصالح المتوازن القادر على أداء رسالته في الحياة، وتحقيق الخلافة في الأرض، والعبودية الحقة لله تعالى.
-
- الشمولية والتكامل المنهجي في التزكية المحمدية
يتسم المنهج التزكوي النبوي بشمولية تتعامل مع الإنسان ككيان متكامل بجميع أبعاده وجوانبه، فهو لا يقتصر على تطهير الروح فحسب، بل يمتد ليشمل العقل والقلب والجسد والسلوك والمجتمع في وحدة متناسقة متكاملة.
وتتجلى هذه الشمولية في آيات كثيرة دلت على عموم بعثته صلى الله عليه وسلم وكونه خاتم النبيين ورحمة للعالمين، وهي صفات لم تنطبق على غيره من الأنبياء كما ورد في القرآن الكريم.
هذه الخصوصية تتجسد في أن منهجه التزكوي يتعامل مع الإنسان ككل متكامل، حيث يستهدف البعد الروحي من خلال تطهير القلب والنفس والارتقاء بها، ويستهدف البعد العقلي من خلال إعمال الفكر والتدبر في آيات الله، ويستهدف البعد الأخلاقي من خلال تهذيب السلوك وتنمية الفضائل، ويستهدف البعد الاجتماعي من خلال بناء العلاقات السليمة وتوطيد أواصر المجتمع.
ويظهر هذا التكامل المنهجي في مفهوم “طلب الكمال” الذي يلخص دعوة النبي محمد صلى الله عليه وسلم، حيث يقوم على العمل بربانية الكتاب والسنة، والإقبال على الله تعالى فكراً ونيةً وقولاً، وعملاً، وحالاً وسلوكاً.
ويشير قوله تعالى إلى هذه الشمولية: ﴿الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا﴾ [المائدة: 3]
-
- التوازن والاعتدال المنهجي
يتسم منهج التزكية النبوي بتوازن فريد يتجنب الإفراط والتفريط من خلال خاصية التوازن والوسطية، فهو منهج يجمع بين المتقابلات في تناسق دقيق، بين الروح والجسد، وبين الدنيا والآخرة، وبين الفرد والمجتمع، وبين العقل والعاطفة، دون إفراط أو تفريط.
هذا التوازن ينبع من طبيعة الرسالة المحمدية وصفتها الوسطية، كما قال تعالى: ﴿وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا﴾.
ومن معالم هذا المنهج الارتباط الدائم بالله تعالى، حيث إن الارتباط بالله تعالى والاستسلام له والعزم على طاعته من شأنه أن يمحص القلوب ويطهر النفوس، لأنه ينقل الإنسان من مرحلة التفكر والتدبر في عظمة الله تعالى وهيمنته ورقابته إلى مرحلة العمل الصالح.
يتميز المنهج التزكوي للنبي محمد عليه الصلاة والسلام بعالميته وقدرته على التكيف مع مختلف السياقات الثقافية والزمانية، وهذا بخلاف الرسالات النبوية السابقة التي كانت موجهة إلى أقوام محددين في أزمنة محددة. فقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يبعث إلى قومه خاصة، بينما بعث محمد صلى الله عليه وسلم إلى الناس كافة وهذا ما أشار إليه القرآن الكريم في قوله تعالى: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ﴾.
هذه العالمية تتجلى في مرونة المنهج التزكوي للنبي الكريم عليه الصلاة والسلام وقابليته للتطبيق في مختلف البيئات والثقافات، وفي قدرته على الاستجابة لمختلف التحديات والمستجدات عبر العصور. وهذا ما يفسر استمرارية هذا المنهج وفعاليته رغم مرور أكثر من أربعة عشر قرناً على ظهوره، وتنوع البيئات والثقافات التي انتشر فيها.
رابعا: تكامل وسائل التزكية في المنهج المحمدي واستمراريته
يتميز المنهج التزكوي النبوي بتكامل وسائله وتنوعها وشمولها لجميع جوانب الحياة. فقد استخدم النبي صلى الله عليه وسلم وسائل التزكية الإيمانية كتصحيح العقيدة وتعظيم الشعائر وتلاوة القرآن وتدبره، ووسائل التزكية العملية كالعبادات المفروضة والنوافل والقربات والمجاهدة والرياضة الروحية، ووسائل التزكية الاجتماعية كصحبة الصالحين والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والعمل الصالح وخدمة المجتمع.
تشكل هذه الوسائل منظومة متكاملة تعمل في تناغم وانسجام لتحقيق التزكية الشاملة للإنسان. يقول الإمام ابن القيم: “بدأ النبي ﷺ تزكية الصحابة بتصحيح عقائدهم، فبنى عقيدة التوحيد في قلوبهم، وجعلها الأساس الذي تقوم عليه جميع أعمال التزكية الأخرى، فمن صحت عقيدته زكت نفسه، ومن فسدت عقيدته لم تنفعه تزكية”. ويقول الإمام أبو حامد الغزالي: “جعل النبي ﷺ من تعظيم الشعائر وسيلة لتزكية النفوس، لأن تعظيم شعائر الله ينشأ من تعظيم الله في القلب، ويؤدي إلى مزيد من تعظيمه، فكلما عظم المرء الصلاة زكت نفسه وارتقت روحه”.
فالنبي محمد ﷺ لم يقتصر على التعليم النظري للتزكية، بل قدم نموذجًا عمليًا من خلال سيرته وسلوكه. يشير القرآن إلى ذلك بقوله: “لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ” (الأحزاب: 21). هذا النموذج العملي جمع بين التربية الروحية والتطبيق التدريجي الذي يظهر حلول التزكية لمختلف مواقف الحياة اليومية.
(Sulaiman, 2014) . ومن ذلك عندما نزلت آيات الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، لم يكتفِ النبي بشرحها نظريًا، بل طبقها عمليًا؛ ففي حديث المعرور بن سويد: “مررنا بأبي ذر بالربذة وعليه برد وعلى غلامه مثله، فقلنا: يا أبا ذر لو جمعت بينهما كانت حلة، فقال: إنه كان بيني وبين رجل من إخواني كلام، وكانت أمه أعجمية، فعيرته بأمه، فشكاني إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فلقيت النبي صلى الله عليه وسلم فقال: “إنك امرؤ فيك جاهلية. ((صحيح البخاري، كتاب الإيمان، باب المعاصي من أمر الجاهلية؛ صحيح مسلم، كتاب الأيمان، باب إطعام المملوك وإلباسه(.
لم يكن هذا التوجيه مجرد لوم، بل خطة علاجية لتنقية قلبه من الكبرياء، تمهيدًا لغرس التواضع. وفي مثال آخر، حرص النبي على تطهير الصحابة من عبادة الأوثان بتعليمهم أن التزكية تبدأ بتوحيد الله، كما في قصة الرجل الذي كان يعبد أحجارًا فبين له النبي بطلانها عبر موقف عملي.
هذا الموقف يوضح كيف حوّل النبي الآية القرآنية {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِّن قَوْمٍ} [الحجرات: 11] إلى سلوك عملي، مُظهرًا أهمية تخليص النفس من عادات الجاهلية قبل تحليتها بالفضائل.
كما استخدم صلى الله عليه وسلم العبادات المفروضة كوسائل أساسية للتزكية، فالصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر، والزكاة تطهر النفس وتزكيها (Alwani, 2019). ثبت في الصحيحين من حديث أبي هريرة رضي الله تعالى عنه أن النبي عليه الصلاة والسلام كان ذات يوم جالسا بين أصحابه في المسجد فدخل رجل فصلى ثم جاء فسلم على النبي الكريم عليه الصلاة والسلام فقال له النبي ﷺ: ارجع فصل فإنك لم تصل فرجع الرجل فصلى كما صلى، ثم جاء فسلم على النبي ﷺ فقال له النبي ﷺ: ارجع فصل فإنك لم تصل، فرجع فصلى كما صلى، ثم جاء في المرة الثالثة فسلم على النبي عليه الصلاة والسلام فقال له النبي: ارجع فصل فإنك لم تصل فقال الرجل: والذي بعثك بالحق لا أحسن غير هذا فعلمني، فقال له النبي الكريم عليه الصلاة والسلام: إذا قمت إلى الصلاة فأسبغ الوضوء، ثم استقبل القبلة فكبر، ثم اقرأ ما تيسر معك من القرآن، ثم اركع حتى تطمئن راكعا، ثم ارفع حتى تعتدل قائما، ثم اسجد حتى تطمئن ساجدا، ثم ارفع حتى تطمئن جالسا، ثم اسجد حتى تطمئن ساجدا، ثم افعل ذلك في صلاتك كلها”.
لقد نجح النبي صلى الله عليه وسلم في بناء جيل فريد تميز بالنقاء الروحي والسمو الأخلاقي، بفضل منهجه المتوازن الذي جمع بين التطهير الداخلي والسلوك الخارجي. لم تكن تزكيته مجرد نظريات، بل نماذج عملية تكيفت مع تنوع الشخصيات والظروف، مما جعل الصحابة قدوات في تجسيد الإسلام قولًا وعملًا. يُلهم هذا المنهج اليومَ الدعاةَ والمعلمين بضرورة الجمع بين الإصلاح الفردي والجماعي، والتركيز على تربية القلوب قبل تلقين المعلومات.
الخاتمة والنتائج
تناول هذا البحث مفهوم التزكية في القرآن الكريم بدراسة تحليلية متعمقة، مع التركيز على خصوصية المنهج النبوي في تأصيلها وتطبيقها. وقد أظهرت الدراسة أن التزكية تشكل منظومة متكاملة تتجاوز المفهوم الضيق المرتبط بالتطهير فقط، لتجمع بين التطهير (التخلية) والتنمية (التحلية)، متناولة الإنسان بأبعاده المتكاملة: الروحية والعقلية والأخلاقية والاجتماعية، مما يجعلها منهجاً شاملاً لبناء الشخصية الإنسانية المتوازنة.
كما كشف التحليل اللغوي لآيات التزكية عن خصوصية توظيف الصيغة المضارعة للفعل “يزكّيهم” في جميع المواضع المتعلقة بالبعثة النبوية، مما يؤكد الاستمرارية الزمنية والتجدد الوظيفي والتدرج المنهجي للتزكية، وهو ما يتوافق مع طبيعة التكوين الإنساني ومسار نموه. وقد تنوعت سياقات آيات التزكية في القرآن الكريم بين السياق الإبراهيمي الذي يبرز امتداد الرسالات وتواصلها، وسياق المنّة الإلهية الذي يؤطر التزكية كنعمة ربانية ذات قيمة عليا، وسياق التحول الحضاري للأميين الذي يظهر التزكية كمعجزة تربوية استطاعت نقل الأمة من الأمية إلى قيادة الحضارة الإنسانية.
أبرزت الدراسة العلاقة التكاملية بين التزكية والمفاهيم المقاربة، حيث يمثل التطهير مرحلة أولية ضرورية للتزكية، وليس مرادفاً لها أو بديلاً عنها، كما بيّنت التداخل المنهجي بين التزكية والتربية في المنظومة الإسلامية، باعتبارهما يشتركان في هدف بناء الإنسان المتكامل. وتجلت خصوصية المنهج النبوي في التزكية من خلال مجموعة من الخصائص الفريدة، أبرزها الشمولية والتكامل المنهجي في معالجة كافة أبعاد الوجود الإنساني، والتوازن والاعتدال المنهجي بين مختلف المتطلبات الإنسانية، والعالمية والقابلية للتكيف مع البيئات والثقافات المتنوعة، والتكامل بين البعدين النظري والتطبيقي في تقديم النموذج الحي، إضافة إلى التكامل بين البعدين الفردي والجماعي في عملية الإصلاح والبناء.
قدم النبي ﷺ نموذجاً تطبيقياً متكاملاً للتزكية يتسم بالواقعية في التعامل مع الفطرة الإنسانية، والتدرج المنهجي في بناء النفس، ومراعاة الفروق الفردية والظروف المتنوعة المحيطة بالإنسان. وقد استمر هذا المنهج النبوي في التزكية من خلال آليات متعددة، أبرزها حفظ مصادره الأساسية (القرآن والسنة)، ووراثة العلماء الربانيين لهذا المنهج، إضافة إلى النماذج التطبيقية المشرقة التي شهدها التاريخ الإسلامي عبر عصوره المختلفة. ويمثل هذا المنهج النبوي المتكامل في التزكية حاجة ملحة في العصر الحاضر لمواجهة الأزمات الأخلاقية والروحية الناتجة عن طغيان المادية والفردية، مع إمكانية تكييف آلياته ووسائله بما يتناسب مع متطلبات العصر ومستجداته.
في ضوء هذه النتائج، يوصي البحث بتطوير الدراسات التطبيقية المتعمقة حول آليات تفعيل منهج التزكية النبوية في واقع المجتمعات المعاصرة، مع التركيز على القضايا المستجدة والتحديات الراهنة. كما يدعو إلى تأصيل منهجية علمية متكاملة لدراسة التزكية النبوية بالاستفادة من العلوم الإنسانية الحديثة، وإجراء دراسات مقارنة بين المنهج النبوي في التزكية والمناهج التربوية المعاصرة، إضافة إلى توثيق التجارب الناجحة في مجال التزكية لاستخلاص الدروس المستفادة منها.
أما على المستوى المؤسسي والتطبيقي، فيوصي البحث بتأسيس مراكز بحثية متخصصة في دراسات التزكية النبوية وتطبيقاتها المعاصرة، وتطوير مناهج تعليمية متكاملة للتزكية تناسب المراحل العمرية المختلفة، وتدريب المربين والدعاة والأئمة على المنهج النبوي في التزكية وآليات تطبيقه في العصر الحاضر، مع تعزيز التكامل بين المؤسسات التربوية المختلفة (الأسرة، المدرسة، المسجد، وسائل الإعلام) في تطبيق منهج التزكية النبوية المتكامل.
وعلى الصعيد المجتمعي، يوصي البحث بإطلاق مبادرات مجتمعية لتطبيق مفاهيم التزكية النبوية في المجالات المختلفة، والاستفادة من التقنيات الحديثة ووسائل التواصل الاجتماعي في نشر قيم التزكية النبوية بأساليب عصرية جاذبة، وتطوير برامج عملية للتزكية موجهة للفئات المختلفة في المجتمع، إضافة إلى تقديم معالجات سلوكية مستمدة من المنهج النبوي في التزكية للمشكلات السلوكية والنفسية المعاصرة.
إن تفعيل منهج التزكية النبوية في واقعنا المعاصر من خلال هذه التوصيات يمكن أن يسهم في معالجة الأزمات الروحية والأخلاقية التي تعاني منها المجتمعات، ويقدم نموذجاً متوازناً للتربية الإنسانية يجمع بين الأصالة والمعاصرة، ويحقق التكامل بين مختلف أبعاد الوجود الإنساني، ويرسخ القيم الأخلاقية والروحية التي تمثل الضمانة الحقيقية لاستقرار المجتمعات وازدهارها. فالتزكية النبوية بمنهجها المتكامل والمتوازن تمثل مشروعاً حضارياً للنهوض بالإنسان والمجتمع، وإخراج الإنسانية من أزماتها المعاصرة، وتوجيهها نحو غاياتها السامية في الاستخلاف والعمران.
المراجع العربية:
- البخاري، م. ب. إ. (1987). صحيح البخاري. تحقيق محمد زهير بن ناصر الناصر. دار طوق النجاة.
- حوى، م. س. (2008). النظر العقلي وأثره في تزكية النفوس. مجلة الفكر الإسلامي المعاصر، 14(54)، 108-135.
- ابن الحجاج، مسلم. م. ب. إ. (2007). صحيح مسلم. تحقيق محمد فؤاد عبد الباقي. دار إحياء التراث العربي ابن فارس، أ. (1979). معجم مقاييس اللغة. تحقيق عبد السلام محمد هارون. دار الفكر.
- السعدي، ع. (2000). تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان. مؤسسة الرسالة.
- سمر، م. (2023). الأسس العقدية والعلمية في تزكية النفس. مجلة العلوم الإسلامية، 10(3)، 213-240.
- الشامي، ع. م. (2017، 27 أبريل). من جوامع الأدعية النبوية في تزكية النفوس. مجلة البيان. https://www.albayan.co.uk/MGZarticle2.aspx?id=5748
- الزمخشري، ج. (1987). الكشاف عن حقائق التنزيل وعيون الأقاويل في وجوه التأويل. دار الكتاب العربي.
- الطبري، م. (2000). جامع البيان عن تأويل آي القرآن. دار المعارف.
- العطاس، ط. ص. (2011). مبادئ التربية الدولية من منظور إسلامي. دار النشر.
- العلواني، ر. ط. (2005). منهج ابن قيم الجوزية في تزكية النفس. مجلة جامعة أم القرى
- العلواني، ط. ج. (2020). التزكية في منظومة القيم الحاكمة. مجلة الفكر الإسلامي المعاصر. تم الاسترجاع من https://citj.org/index.php/citj/article/view/2651
- العلواني، ط. ج. (2000). منظومة القيم العليا: التوحيد والتزكية والعمران. مركز المعرفة. تم الاسترجاع من https://maarifa-center.com
- ابن فارس، أ. (1979). معجم مقاييس اللغة. تحقيق عبد السلام محمد هارون. دار الفكر.
- القرطبي، م. (1964). الجامع لأحكام القرآن. دار الكتب المصرية.
- ابن القيم، م. (1996). مدارج السالكين بين منازل إياك نعبد وإياك نستعين (ج2). دار الكتاب العربي.
- الكيلاني، م. ع. (2018). فلسفة التربية الإسلامية. دار المنارة.
- محمد، ح. م. ف. (2020). تزكية النفس من خلال نصوص القرآن والسنة: تزكية النفس بالقرآن والسنة النبوية. مجلة معالم الدعوة الإسلامية، 11(1)، 165-186. https://doi.org/10.52981/fic.v1i11.52
- مدكور، ع. أ. (1997). مناهج التربية: أسسها وتطبيقاتها. القاهرة: دار النشر.
- النجار، ع. م. (2019). مقاصد القرآن في تزكية الإنسان. مجلة الفكر الإسلامي المعاصر، 24(95)، 7-36.
- معهد بحوث الحديث (INHAD). (2018). أساليب التزكية المستفادة من شرح الإمام ابن أبي جمرة لحديث بدء الوحي: دراسة تحليلية. في وقائع المؤتمر الدولي الثالث للحديث (IMAM 2018) (ص. 124-145). الجامعة الإسلامية الدولية بكلية سيلانجور. eISBN 978-967-44741-6-4
- موقع الألوكة. (2017، 10 يوليو). تزكية النفس في أدعية النبي صلى الله عليه وسلم. تم الاسترجاع في 1 أبريل 2025، من https://www.alukah.net/sharia/0/118059/%D8%AA%D8%B2%D9%83%D9%8A%D8%A9
المراجع الإنجليزية:
- Alwani,Z. (2019). Transformational teaching: Prophet Muhammad (peace be upon him) as a teacher and Murabbī. Journal of Education and Islamic Studies, 2(1).
- IslamOnline. (2024). Sacred Places and the Power of Invocation. Retrieved from https://islamonline.net/en/sacred-places-and-the-power-of-invocation/
- Manullang, R., & Trihudiyatmanto, T. (2021). The Role of the Quran in the Development of Islamic Civilisation. Mushaf Journal, 7(2), 45–60.
- Picken, G. N. (2005). The Concept of Tazkiyat al-Nafs in Islam in the Light of the Works of al-Harith al-Muhasibi (Doctoral dissertation). University of Leeds. Retrieved from https://etheses.whiterose.ac.uk/id/eprint/329/1/uk_bl_ethos_416835.pdf
- Siregar, K. (2023). Concept of Islamic Education Psychology in Ihya’ ‘Ulum al-Din by Al-Ghazali. Jurnal Studi Islam, 9(2), 663–680. DOI: 10.30868/ei.v9i02.1569.
- Sulaiman, K. U. (2014). The Role of Qur’an in the Transformation of Human Society. Revelation and Science, Vol. 04, No. 01, International Islamic University Malaysia.
- Traversing Tradition. (2024). Barriers to Understanding the Qurʾān: Insights from Imam Al-Ghazali’s Ihyaʾ Ulum al-Din. Retrieved from https://traversingtradition.com.